كريم يونس جاءنا من زمن مختلف ومكان مختلف، فلا غرابة أن يأتينا الشعاع من الشمس، أما أن يأتي من عمق الظلام، يشق طريقه عبر جحافل الظلمات التي جثمت على الصدور وضاقت بها سبل الحرية وتوارى فيها عشاق النور خلف ستائرها الكثيفة، هذا شيء عظيم يثير الاهتمام ويذهل الأبصار.
كريم يونس ثورة متكاملة الأركان، استوى على سوقه روحا ووعيا وإرادة حرّة وشعورا عاليا بالكرامة والاعتداد بالذات الفلسطينية العالية، ثم قرّر وتحرّك وناضل، رسم أهدافه بدقّة وخطّط لها بمهارة عالية ثم اختار أعلى درجات الجهاد والمقاومة وذروة سنامها.
في ذاك الوسط العربي الذي كان الاحتلال قبل قرابة أربعين سنة يمارس عليه أشد درجات السطوة والأسرلة وتغييب الهوية الوطنية ، كان الناس يُساقون إلى حيث يريد هذا الذي ظنّ أنه قد بلع الزمان والمكان، مجرّد أيدٍ عاملة تزوّد عجلتهم الاقتصادية بالقدرات البشرية متدنية المستوى، لا تنفع إلا للأعمال ذات الدرجات الوظيفية المتدنية خاصة تلك التي يأنف منها عرقهم السامي الخالص النقيّ الأصيل!
كريم يونس بذاته الفلسطينية الضاربة المتجذرة الراسخة في عمق الوجدان الفلسطيني يعلن أن الروح الفلسطينية واحدة ولا تتجزأ أبدا، أي ذرة من تراب فلسطين هي كل فلسطين وأي نبض ينبض به قلب أي فلسطيني ما هو إلا نبض فلسطين كلّها، هي جسم واحد قلبه القدس.
وعى الفتى الفلسطيني ذو السحنة الكنعانية الأصيلة أن كل ما يقيمه الإسرائيلي على هذه الأرض الفلسطينية هو باطل وفاسد ولا محالة هالك، مهما انتفش الباطل وعلا لكنه سيذوي ويذوب لا محالة، سار بعكس التيار، استمع لنداء الواجب المزروع في صدره ولم يحسب حسابا لشيء، الحساب الوحيد الذي علا في رأسه هو حساب الحرية وتحرير فلسطين، ولم تكن في حينها الكثرة الغالبة تسير في هذا المضمار بل كانت قلّة قليلة التي تهب نفسها كلّها لفلسطين، فكان كريم ومن معه من هذه الكوكبة المتقدمة في روحها ووعيها وإرادة فعلها.
كان من طلاب إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة بقوّة فاعلة وإرادة لا تلين إلا أن كان له ثالثة وهي الأسر ودخول المعتقل ليجعل منه حسنى ثالثة، بصبره الجميل وثباته على الروح والفكرة، فكان حديد السجن يصدأ فيُطلى ويجدد المرة تلو الأخرى بينما إرادة كريم لا تصدأ ولا تلين ولا تئن من وطأة السنين الثقيلة وقهر سجان لا يتقن سوى لغة القمع والتنكيل وتفعيل ألوان التعذيب كافّة ما عرف منها البشر وما لم يعرفوا. في السجن يمارس كامل وطنيته رغم أنف سجّانه، تطلق روحه كل إشراقاتها الجميلة فتضيء عتمة الزنزانة وتحيل العذاب إلى فرصة للمزيد من التوقّد وإلى مصدر توعية ومعقل حرية ومصنع إرادات، كريم مثال حيّ ومصدر عظيم من مصادر زراعة روح الانتصار، كان ثورة متكاملة وعندنا سجن دخلت معه الثورة إلى زنزانته فجسّدها خير تجسيد واستمرّ بممارسة الثورة وهو في أحلك الظروف وأشدّها وطأة وقساوة. ونحن هنا لا نتحدث عن سنة أو سنتين أو خمس ، نتحدّث يا قوم عن قرابة أربعة عقود، هنا عندنا في فلسطين من بلغت سنواته الأربعين أو قاربت: نائل البرغوثي ، وماهر يونس ومحمد أحمد الطوس، إبراهيم نايف أبو مخ، ورشدي حمدان أبو مخ، ووليد نمر دقة، وإبراهيم عبد الرازق بيادسة، وأحمد علي أبو جابر، وسمير إبراهيم أبو نعمة .. إلخ.
ثمّة تقصير لا بدّ من ذكره وهو تمسك الإسرائيلي بعدم إطلاق سراح أسرى فلسطين المحتلة سنة ثمانية وأربعين، وتمرير ذلك من خلال المفاوضات أو الصفقات على اعتبار أنهم مواطنون في هذا الكيان! لا يمكن لنا أن نمرّ عن هذا لمن قدم كل هذه التضحيات وحمل من سني القهر ما تنوء عن حمله الجبال الراسيات، لا بدّ أن يكونوا لنا خطّا أحمر، وعيب كبير علينا أن يمرّر أعداؤنا هذا الاستخفاف وهذا الصلف الذي لا حدود له. فالحرية لهم أولا ولا يجوز تقديم أحد عليهم أبدا.