تتسارع الخطوات الإسرائيلية باتجاه ضم أكثر من 30% من أراضي الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال، الأراضي التي تقام عليها المستوطنات الإسرائيلية، بالإضافة إلى منطقة غور الأردن والتي تعرف بـ "سلة الخبز" للدولة الفلسطينية التي كان يفترض أن تقوم على الأراضي التي احتلت عام 1967. ومن أجل وضع اللمسات الأخيرة على خطة الضم، زار وزير الخارجية الأميركية، مايك بومبيو، إسرائيل، والمرجّح أن تباشر دولة الاحتلال باتخاذ الإجراءات على الأرض في شهر يوليو/ تموز المقبل.
وسيمثل هذا الضم، إن حصل، ولأول مرة، النهاية الفعلية لنموذج حل الدولتين، وطي صفحة اتفاق أوسلو التي تجسد هذه الرؤية. وعليه، سيتعلق السؤال الملح بشكل الإطار الجديد لحل الصراع، الأمر الذي دفع بعضهم إلى الاستنتاج بأن نموذج حل الدولة الواحدة هو الشكل الجديد للحل، في حين ذهب آخرون إلى سيناريوهات أخرى، مثل دولة ثنائية القومية، وغيرها من تنبؤات. والمهم هنا هو ما يفكر فيه قادة اليمين الإسرائيلي الذين يشرفون على مخطط الضم، فبلا شك لديهم رؤية بشأن ما يريدون التوصل إليه، ورؤيتهم هذه، بالنظر إلى مجمل تاريخهم السياسي في إدارة الصراع، تقول إن ما يهدفون إليه هو إيجاد واقع جديد في مناطق الضفة الغربية، يمكن تسميته مجازًا "غزة الجديدة".
ولم تؤمن أيديولوجية اليمين الإسرائيلي يومًا بحل الدولتين، بل بالسيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، وقد تعهد بنيامين نتنياهو، في أوج عملية السلام في التسعينيات، أي بعد اتفاق أوسلو، بإفشال حل الدولتين، ومنع إقامة دولة فلسطينية، ويبدو أنه نجح اليوم على الأقل بإعلان وفاة حل الدولتين. وبما أن اليمين لا يؤمن بهذا الحل، فإنه بالتأكيد لن يذهب باتجاه "حلول انتحارية"، مثل حل الدولة الواحدة. ولذلك يصبح ضم الأغوار ومناطق المستوطنات الخطوة الأولى باتجاه اقتطاع أراضٍ إضافية من الضفة الغربية من ما تعرف "مناطق ج" التي لم تتخلّ إسرائيل عن السيطرة الأمنية فيها منذ توقيع اتفاق أوسلو، ومعظم هذه المناطق أراض فارغة غير مأهولة بالسكان.
ستتحول الضفة الغربية، بعد مصادرة مزيد من الأراضي وقطعها عن التواصل الجغرافي مع الأردن، وسيطرة إسرائيل عليها من جميع الاتجاهات، مناطق ذات كثافة سكانية هائلة، وبدون أراضٍ زراعية (بعد مصادرة سلة الخبز المتمثلة بغور الأردن)، وربما تصل نسبة الكثافة السكانية فيها، في هذه الحالة، إلى ما هو عليه قطاع غزة اليوم، وربما تفوق ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة لارتفاع معدل البطالة، حيث لن يعود ممكنا بناء اقتصاد وطني ضمن هذه المعطيات. وبمعنى آخر، فإن كيانا جديدا سيتم إيجاده في الضفة الغربية، أشبه ما يكون بنموذج غزّة اليوم. الفرق الوحيد بين "الغزّتين"، في هذه الحالة، أن غزة الحالية يشترك نظام عربي بحصار أحد الجهات فيها، بينما ستطبق إسرائيل على "غزّة الجديدة" بالكامل، ولن تكون بحاجة لنظام عربي آخر لمساعدتها على القيام بذلك.
سيشكل "التطهير العرقي الناعم" المرحلة الثانية في رؤية اليمين الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية على أرض فلسطين التاريخية. إذ بعد الحصار المطبق ومصادرة الأراضي، ستبدأ حكومة الاحتلال بسلسلةٍ لا تنتهي من المضايقات على أهل الضفة الغربية، فرض ضرائب باهظة وسحب بطاقات غير المقيمين وعدم منح تراخيص بناء جديدة، حتى تنعدم الشروط الأساسية للحد الأدنى لحياة كريمة هناك. وبما أنه لن يكون هناك مجال للتمدّد الأفقي لمواكبة الزيادة السكانية الطبيعية، سيجد الفلسطينيون في الضفة الغربية اتجاهًا واحدًا لتمدّدهم الطبيعي، وهو الهجرة إلى الخارج. أي لن تكون إسرائيل في حاجةٍ إلى تنفيذ إجراءات طرد بالقوة لتحويل الفلسطينيين إلى أقلية داخل أرضهم التاريخية، حيث سيضطرّون للبحث عن سبل عيشٍ كريمة في الخارج.
هل سينجح اليمين الإسرائيلي في إيجاد "غزّة الجديدة"، وتنفيذ رؤيته بتصفية القضية الفلسطينية؟ ليس بالضرورة. سيقضم اليمين الإسرائيلي لقمة كبيرة في مشروع الضم، وإذا نجح في مضغها سيُحدث اختراقًا تاريخيًا على الأرض، وإذا عجز عن ابتلاعها ستكون خطوته حيويةً على طريق هزيمة المشروع الصهيوني. ويدرك أمنيون إسرائيليون كثيرون هذا الخطر، وقد حذّروا من ذلك علانية، ومنهم رئيسا جهازي الشاباك (المخابرات الداخلية) والموساد (المخابرات الخارجية) السابقان، عامي إيالون وتامير باردو، وقائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي، جادي شامني، في مقالتهم في مجلة فورين بوليسي، في 23 إبريل/ نيسان 2020، والتي جادلوا فيها أن الضم يشكل خطرًا على الأمن القومي الإسرائيلي.
نعم، يمكن للفلسطينيين هزيمة مشروع الضم، وتحويله فعلًا إلى فرصة لإعادة تعريف الرؤية الوطنية، ورسم استراتيجيات تحرّر جديدة، تختلف في منهجها وأدواتها عن تلك الطرق العقيمة التي اجترّتها القيادة الفلسطينية ربع قرن، ولم توصل إلا إلى "عبثية نضالية" تدور في حلقة مفرغة. وحتى ينجحوا في ذلك، عليهم، خطوة أولى، التحرّر من وهم أن الضم سيوصلهم بالضرورة إلى حل "الدولة الواحدة" الآخذ بالتردّد على ألسنة كثيرة، منذ بدأت الاستعدادات والتهيئة للضم. وعليهم أن يتذكروا أنه إذا كان اليمين الإسرائيلي هو من يتبنى مشروع الضم، فإن كلا المعسكرين الإسرائيليين، اليمين واليسار، سيقاتلان بكل ما أوتيا من قوة ليمنعا تطبيق خيار الدولة الواحدة.
العربي الجديد