تُقدّم السلطة الفلسطينية نفسها لنا بـ"الضعيفة اقتصاديًا"، فهي فقيرة لا تملك آبار نفط أو غازا طبيعيا أو مناجم فوسفات أو ذهب، لكنّها تملك بالمقابل ما هو أغلى؛ تملك المواطن البسيط الذي ترى فيه بقرة حلوبا، وتبرر أنّها تصرف الضرائب التي تحصّلها على خدمات تقدّمها، وأن أداء الحكومة وخدماتها في تحسّن مستمر، رغم تدني رواتب الموظفين العموميين.
مؤسسات لا نحتاج منها سوى لبضع هيئات، وبمجرد التخلص من أجور مقراتها ومصاريفها التشغيلية ورواتب أباطرتها نستطيع أن نخفّض العجز الحكومي أكثر من النصف.
الإشكالية التي سأتناولها لا تتعلق بالحكومة والإدارات التابعة لها، بل تتعلق بعبء مالي خيالي لأكثر من 80 مؤسسة غير وزارية تكلّف خزينة الدولة نسبة عالية يصعب حصرها من الموازنة العامة، ولا تقدّم معظمها أي خدمات تذكر للمواطنين. ولبعضها مقرّات يمكن تصنيفها بدرجة خمس نجوم، أجورها بثلاث خانات من آلاف الدولارات، رواتب رؤسائها خيالية، وأقل راتب لرئيس فيها هو راتب وكيل وزارة، والجزء الأعظم منهم يحصلون على راتب درجة وزير، وفئة ثالثة تتعدى رواتبهم رواتب مديري البنوك وشركات القطاع الخاص ويتجاوز بعضها عشرة آلاف دولار شهريًا وقد تزيد ضعف الرقم المذكور، لكن لا يمكن حصر ذلك بدقة؛ فهي صناديق مغلقة على العامة.
قبل أيام ثار المجتمع الفلسطيني على تعديل قانوني يعطي امتيازات جديدة لرؤساء بعض هذه المؤسسات، وثار مرّة ثانية ضد قرار بقانون لإنشاء ديوان رئاسة بوتيرة لم تحصل من قبل، علمًا أنّ لدينا أكثر من 80 هيئة على الأقل لا مبرر لوجودها أصلًا، وحتى لو كان وجودها ينسجم والقانون الأساسي، فلدينا مؤسسات وهيئات عامة تتبع منظمة التحرير الفلسطينية وتحصل على موازناتها من الصندوق القومي للمنظمة، وغالبية الناس لا تعرف شيئًا عن هذا الصندوق، وجزء آخر من المؤسسات يتبع منظمة التحرير لكنه يحصل على موازنته من الخزينة العامة، ويطبِّق بالرواتب قانون الخدمة المدنية، ومعظم القائمين على هذه المؤسسات والهيئات يتلقون رواتب درجة وزير أو وكيل.
مؤسسات عامة أخرى تحصل على موازنتها من الخزينة العامة، تتبع نسبيًا للحكومة، لكنّها مستقلة عن أي وزارة مثل هيئة تسوية الأراضي والمياه وغيرها. والبعض الآخر من الهيئات تأتي موازنتها من الأموال التي تديرها، مستقلة بموازناتها وسياساتها وأنظمتها المالية مثل سلطة النقد، ومؤسسة إدارة وتنمية أموال اليتامى، وهيئة مكافحة الفساد، فرواتب رؤساء معظمها تتعدى العشرة آلاف دولار شهريًا.
تخيّلوا أنه يوجد لدينا مؤسسة تسمى "صندوق الإقراض الزراعي" ومؤسسة أخرى اسمها "صندوق التأمينات الزراعية" لكنّها لم تقدم لا قروضا ولا تأمينات حقيقية، فلماذا لا تُحلّ وتحول وظائفها إلى وزارة الزراعة. لدينا "هيئة تشجيع استثمار" و"هيئة مدن صناعية"، ولم تنشأ لدينا أيضًا مدن صناعية حقيقية، فلماذا لا تدمج مثلًا بوزارة الاقتصاد؟ لدينا "المجلس الصحي الفلسطيني" و"المجلس الطبي الفلسطيني"، فماذا تبقّى لوزارة الصحة؟
لدينا "مؤسسة محمود درويش"، و"مؤسسة ياسر عرفات"، و"المكتبة الوطنية" و"مؤسسة العاشقين للثقافة والفنون" وكلّها لها مقرّات وموازنات، في حين يوجد لدينا وزارة ثقافة بلا مهام، تمامًا كما لنا وزارة إعلام، والإعلام منفصل عنها، وفي الوقت نفسه غير مستقل!
لدينا "ديوان فتوى وتشريع" عمله يقتصر على طباعة "مجلة الوقائع"، و"معهد التدريب القضائي" شبه المعطّل غالبية الوقت، و"هيئة تسوية الأراضي والمياه"، وكل هذه المؤسسات كانت غالبيتها تتبع لوزارة العدل. ولدينا دائرة الإفتاء بموظفيها في مختلف الفروع، ماذا تقدم لنا سوى إعلامنا متى تعلن السعودية عن الصيام والإفطار؟!
ما الذي يحول دون أن تكون "هيئة حوادث الطرق" تابعة لوزارة النقل المواصلات؟ و"مؤسسة ضمان الودائع" دائرة في سلطة النقد؟ و"جمعية العمل التعاوني" و"صندوق التشغيل" وحدتين في وزارة العمل؟ ما الحاجة في أن يكون لدينا هيئة الإشعاع النووي؟ ولها قانون خاص ينظم عملها؟ وما الذي يحول دون أن يكون "صندوق الأيتام" جزءًا من القضاء الشرعي أو وزارة الأوقاف؟ وأن تعود "هيئة الشؤون المدنية وزارة؟ وأن يكون "ديوان الرقابة المالية" و"هيئة مكافحة الفساد" مؤسسة واحدة برئيس واحد وفريق عمل واحد؟
هذه فقط أمثلة وليس حصرًا لثمانين مؤسسة حكومية تشبه بجوهرها مؤسسة ديوان الرئاسة؛ لا نحتاج منها سوى لبضع هيئات ومؤسسات مستقلة، فمجرد التخلص من أجور مقراتها ومصاريفها التشغيلية ورواتب أباطرتها تصبح لدينا موازنة تنمية على المستوى الإستراتيجي، ونستطيع أن نخفّض العجز الحكومي أكثر من النصف، هذا هو التقشّف الحقيقي في الموازنة.
نحتاج لأن تبسط الحكومة يدها على كل هذه المؤسسات، فهي وسيلة لوقف هدر المال العام، وتشكل هذه "المؤسسات/ الإمارات" دولًا داخل دولة. وحماية المال العام الذي جاء من دافعي الضرائب أولى ألف مرة من حماية نصوص نعبدها. فلا يهمُّنا إن كان إنشاء هذه المؤسسات ينسجم وقواعد القانون أم لا، ما يهمنا أنها طريقة لتوزيع منافع، وهدر المال العام، وجوهر بعضها يشبه الصناديق السوداء.
يجب أن يُطبّق على العاملين في هذه المؤسسات قانون الخدمة المدنية، وإن كان هناك ظلم في الشرائح لبعضهم، يُعاد النظر في كل الدرجات من أصغر موظف إلى رئيس الدولة، حينها سنجد أنفسنا قادرين على إنصاف شرائح ظلمت في رواتبها كالمعلمين والأطباء وصغار منتسبي أجهزة الأمن.