مخصصات الأسرى هي عنوان المعركة الفلسطينية- الإسرائيلية الحالية، وذلك بعد أن أصدر قائد جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة أمرًا يقضي بحجز حسابات الأسرى في البنوك الفلسطينية، اعتبارًا من التاسع من شهر أيار الحالي، وتهديده بمحاكمة موظفي البنوك وحبسهم لفترات تصل إلى مدة سبع سنوات في حال المخالفة، وبالفعل باشرت بعض البنوك بإغلاق حسابات الأسرى لديها.
ما يجري هو امتدادٌ لما عرف بأزمة المقاصة التي بدأت في شهر شباط عام 2019، حيث صادق الطاقم الوزاري الإسرائيلي على حجز مبلغ 140 مليون دولار مما تجبيه (إسرائيل) كعائدات ضرائب على البضائع الموردة من خلالها (المقاصة) بدل المخصصات التي تدفعها السلطة الفلسطينية إلى الأسرى في السجون الإسرائيلية. واستمرت هذه الأزمة لعدة شهور، حيث رفضت السلطة استلام المقاصة إلا بعد إعادة المبالغ المحتجزة، ثم انتهت بقبول السلطة استلام المقاصة مع بقاء المبالغ محتجزة.
ويقدر الخبراء ما تنفقه السلطة على عائلات الشهداء والأسرى والجرحى بنحو 332 مليون دولار سنويًا.
السؤال الحقيقي الذي يحتاج إلى إجابة هو: كيف يمكن للفلسطينيين مواجهة هذه الأزمة؟ هل يمكن للسلطة إلزام البنوك بعدم إغلاق حسابات الأسرى؟ وإذا فعلت ذلك، هل تستطيع حماية البنوك من جيش الاحتلال؟
أعتقد أن السلطة الفلسطينية غير قادرة على إلزام البنوك بعدم إغلاق حسابات الأسرى، وفي أحسن الأحوال ستلتزم الصمت، وستغلق البنوك الحسابات من تلقاء نفسها، فهي غير قادرة على المواجهة، وأموال الأسرى أصبحت بالنسبة لها مصدر خطر، وستفعل تمامًا كما فعلت مع حسابات بعض المؤسسات الأهلية، حيث أغلقت حساباتها ورفضت تنفيذ حوالات قادمة إلى بعضها.
قرارات البنوك من هذا القبيل تأتي تخوفًا من تنفيذ تهديدات قانونية إسرائيلية، وتطبيقًا لمقاييس دولية، فهي تخشى من التعامل مع أموال يمكن لأية جهة دولية أن تشكك بمشروعيتها، وبات هذا الأمر ممكنًا بدرجة أكبر مع القرار العسكري الإسرائيلي الجديد بشأن مخصصات الأسرى.
البنوك الفلسطينية تخضع لقيود حقيقية لا تفصح عنها، وبعضها يعتمد على قائمة "World Check "، وهي قائمةٌ تحتوي على معلومات عن كل الأشخاص المصنفين عالميًا بأنهم "خطيرون"، وهي معتمدة من بعض البنوك، ويمكن للسلطات الإسرائيلية أن تضع أسماء الأسرى في هذه القائمة، هذا إن لم تكن قد وضعتها من قبل، ولا يمكن إزالة اسم أي شخص من القائمة حتى لو سقط اسمه من قائمة الدولة التي زودت الشركة المذكورة به. وبالتالي تنظر البنوك إلى هذه القائمة بأهمية بالغة وترفض فتح أي حسابات لمن ترد أسماؤهم بها، لتجنب أي ملاحقة قضائية قد ينجم عنها تعويضات باهظة تهدد المصرف بالانهيار.
أعتقد أن حل قضية مخصصات الأسرى في هذه الظروف لا يمكن أن يكون سياسيًا كما يطالب الكثيرون، ولن يكون حلاً قانونيًا فلسطينيًا يفرض على المصارف رفض الأمر العسكري، فهو أمر يفوق قدرة السلطة وقدرة البنوك وقدرة سلطة النقد. وسيبقى الخطر يواجه مخصصات الأسرى ويواجه النظام المصرفي ما لم يتم إيجاد حل يصون كرامة الأسرى وحقوقهم، ويضمن حماية النظام المصرفي.
الحل من وجهة نظري يتمثل بالانتقال من حالة الانفعال العاطفي إلى التدبير العقلاني، وذلك بالتعامل مع قضية مخصصات الأسرى باعتبارها قضية حقوقية إنسانية بالدرجة الأولى، وليست استحقاقًا ماليًا (رواتب) يصرف بدل سنوات سجنهم، أي أن تصرف المخصصات المالية مباشرة إلى عائلات الأسرى المحتاجة باعتبارها حقًا إنسانيًا لمن يعيلهم هؤلاء الأسرى، وهذا ما تمارسه بعض الدول، حيث تصرف لأسر السجناء المعالة أصلاً من قبل السجناء مساعدات مالية ضمن برامج الحماية الاجتماعية، ولا تصرفها للسجناء مباشرة. فالحكومات هي المسؤولة عن مصاريف السجناء ما داموا بالسجن، وهذا ينطبق بموجب الاتفاقيات الدولية على السلطات الإسرائيلية. وبهذا يمكننا أن نبقي على فكرة المساعدات المالية لأهالي الأسرى بإطار حقوقي إنساني يشارك الأسرى أنفسهم برسمه.
أعي جيدًا أن الحل الانفعالي هو الأقرب للمزاج العام، والأسهل أن نقول إننا نرفض التدخل الإسرائيلي في مخصصات الأسرى كما فعلنا في قضية رفض استلام المقاصة. لكن هذا الحل ليس بإمكان سلطة تحت الاحتلال أن تحميه أو تنفذه، فنحن نذكر كيف حلت قضية المقاصة، وما هو عدد المرات التي اقتحم فيها جيش الاحتلال محلات الصرافة أو البنوك في رام الله، وصادر محتوياتها وأموالها ولم تقم السلطة بفعل أي شيء تجاههم.
دعونا نفكر جيدًا بالحل الحقوقي وكيفية مواءمته مع الواقع، فهو يفي بالحفاظ على كرامة الأسرى وأسرهم، ويفي بأن تلتزم السلطة الفلسطينية بدفع هذه المخصصات إلى الأسر التي يعيلها الأسرى، وهو حلٌ غير سهل، ويحتاج إلى معركةٍ حقوقيةٍ على مستوى العالم كي يتم تثبيته، ويتم تبديد الرواية الإسرائيلية التي باتت تجد آذانًا صاغية بأن السلطة الفلسطينية تشجع على العنف من خلال دفع رواتب الأسرى، فنحن نقوم بدور حقوقي إنساني مكفول بالمعايير الدولية تجاه فئة من الناس لها هذا الحق، وليس منة من أحد. وبإمكان الفصائل مكافأة الأسرى بأساليبها المختلفة، في مقدمتها السعي من أجل نيلهم الحرية، فقيمة الحرية تفوق قيمة المال ولا تلغيه بنفس الوقت.