أما على صعيد المنطقة فإن الصين ستدعم الأنظمة الشمولية وستتعامل معها كامتداد لها في الدول التي تحكمها وسيشهد العالم انحسارًا شديدًا للديمقراطية، فلا يمكن لنا أن نتصور قبول الصين بوجود الديمقراطية في الدول التي تهيمن عليها في حين لا توجد مثل هذه الديمقراطية في الصين نفسها، "وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم" كما يقول أبو تمام، وعلى صعيد العالم ستتقوقع الدول الغربية وستتعزل تدريجيًّا وستسعى للمحافظة على الثقافة الغربية ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا من خلال اتفاقيات تعقدها مع الصين تتنازل خلالها عن أشياء كثيرة لم تكن تتخيل أنها ستساوم عليها، وكل ذلك في سبيل بقاء هذه الحضارة الغربية مستقلة.
ثانيًا: السيناريو الثاني:
وهو أن تتشبث الولايات المتحدة بدروها ولكن لا تصبح الولايات المتحدة اللاعب الأوحد، وتأخذ الصين دورًا موازيًا، ويصبح العالم محكومًا من قطبين، وانقسام العالم إلى معسكرين وفقًا لما كان سائدًا خلال فترة الحرب الباردة.
يعد من وجهة نظري هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا، إذ إن الولايات المتحدة ورغم ما قد يعتريها من صدمات فإنها ما زالت لديها من أوراق القوة ما يمكنها من الاستمرار كدولة عظمى لها تأثير واضح وكبير في مجريات الأحداث العالمية، إلا أن قبضتها ستتفلت شيئًا فشيئًا عن زمام النفوذ العالمي لتأخذ الصين مكانًا موازيًا لها في تقرير السياسات الدولية، أما انعكاس هذه الحالة على العالم والمنطقة وفلسطين فإني أراها كالآتي:
بخصوص القضية الفلسطينية فإن الدعم المطلق والكامل الذي كانت توفره الولايات المتحدة لـ(إسرائيل) لن يكون كسابق عهده، وربما تدفع سياسات الصين الولايات المتحدة للاتفاق مع الصين على حل للقضية الفلسطينية لا يكون أمريكيًّا أو إسرائيليَّ الهوى، وقد يعتريه شيء من التوازن القائم على إنفاذ قرارات الشرعية الدولية وتسريع عملية السلام وصولًا لدولة فلسطينية وفقًا لما سبق الاتفاق عليه مع تحسين شروط وجودها كدولة من ناحية الحدود والسيادة وحرية الاقتصاد، ولكن مع حفظ التوازن القائم في القوى بين كل من الدولة الفلسطينية المستقبلية والكيان الصهيوني، بحيث يبقى التفوق العسكري الصهيوني واضحًا، ولكن قد تشهد الدولة الفلسطينية نهضة اقتصادية واعدة نظرًا لانعتاق الاقتصادي الفلسطيني من رقبة الاقتصاد الإسرائيلي، وبما يمتلكه الفلسطينيون من عقول وإمكانات فلسطينية وما قد توفره الدول الصديقة من مزايا واستثمارات.
وربما يشهد الوضع الفلسطيني الداخلي نوعًا من الاستقرار السياسي نظرًا لتوقف التهديد الإسرائيلي الذي كان ملازمًا للحالة الفلسطينية، بل وكان معكرًا ومفسدًا لأي حالة وفاق قد تشهدها الساحة الفلسطينية، وذلك مرده إلى الموقف الصيني الذي سيكون مؤثرًا ولا شك على مجريات الحالة الفلسطينية بشكل عام.
وقد يؤدي هذا التغيير في ميزان القوى إلى فتح الأفق السياسي الدولي أمام القوى الإسلامية بعد أن كان مغلقًا تمامًا في ظل التحكم الأمريكي شبه المطلق في مجريات العمل السياسي الدولي.
أما فيما يتعلق بانعكاس هذا السيناريو على الوضع الإقليمي والدولي فإن الدول التي كانت تدور تاريخيًّا في فلك الولايات المتحدة ستبقى على علاقتها مع الولايات المتحدة كنوع من طلب الحماية، ولكن ستقلُّ بطبيعة الحال قدرتها على التأثير في القرار الإقليمي كما كان سابقًا، في حين ستتجه الدول التي كانت على تنافر مع السياسات الأمريكية نحو تشكيل نوع من الحلف السياسي والاقتصادي مع الصين لتصبح المنطقة منقسمة بين معسكرين يتنافران سياسيًّا ولكن يتشابهان اقتصاديًّا من حيث اعتناق الفكر الاقتصادي المنفتح القائم على إطلاق المنافسة الاقتصادية، حيث اعتمدت الصين هذه السياسات (سياسة الإصلاح والانفتاح) منذ عام 1978، وربما يؤدي التنافس الاقتصادي بين المعسكرين إلى وجود نوع من الرفاه الاقتصادي للمواطن العادي الذي سيكون أمام سوق ضخم مفتوح يعج بالمنتجات الاقتصادية التي تنتجها هذه القوى الاقتصادية الهائلة، ومن ثم اندثار الفكر الاشتراكي تمامًا، وسيكون تكافؤ القوى عاملًا مهمًّا في التوافق على السياسات الاقتصادية العالمية التي تؤدي إلى الحفاظ على مصالح هذين القطبين العالميين، ومن يدور في فلكهما، وما يواكب ذلك من فتح المجالات بصورة أوسع أمام التجارة العالمية وتقليص فرض الضرائب على السلع على أبعد حد لانسيابها بين مختلف الاقتصادات العالمية التي ستتأثر حتمًا بهذا النظام الاقتصادي الجديد تقدمًا أو تراجعًا.
أما السيناريو الثالث وهو سيناريو تعدد الأقطاب؛ فهذا السيناريو ربما هو الأقل حظًّا في الوجود، حيث إن الفوارق ما زالت كبيرة بين الاقتصادين الأكبرين الممثلين في الولايات المتحدة والصين وباقي الاقتصادات العالمية الأخرى، وكذلك القوى العسكرية لكل من هذه الدول.
إلا أن حدوث هذا السيناريو سينعكس على مجريات الأمور العالمية والإقليمية والفلسطينية، على النحو الآتي:
إن وجود عالم متعدد القطاب من شأنه أن يجعل العالم أكثر توازنًا ويحقق مزيدًا من الاستقرار على الصعيد العالمي في كل المجالات، وعلى وجه الخصوص في مجالي السياسة والاقتصاد، ومرد ذلك إلى غياب الهيمنة الأحادية أو الثنائية التي كانت تسخر القدرة السياسية والاقتصادية لتحقيق مصالح قطب معين أو تتقاسمه مع قطب آخر موازٍ، وكان من أبرز تجليات هذه الحالة، كما فرض سياسات لا تتسم بالعدالة أو الإنسانية في مفهومها العام. أما حالة تعدد الأقطاب فمن شأنها أن تحقق مصالح كمٍّ أكبر من البشر الذين تمثلهم هذه الأقطاب؛ ما يترتب عليه اضطرار كل الأقطاب للتنسيق والتعاون من أجل إيجاد أكبر قدر من المزايا والمصالح للأقطاب كافة، وهذا ما يستلزم دائمًا إيجاد القواسم المشتركة وتحقيق مزيد من التعاون وما يواكبه من نمو اقتصادي وتطور صناعي وتكنولوجي عالمي، وإيجاد وسائل أكثر فاعلية لحل الصراعات الدولية بعيدًا عن سياسة فرض الحلول والإملاءات التي لن تكون متاحة في عالم متعدد الأقطاب.
كل ذلك سيلقي بطلالة بلا شك على واقع المنطقة وفلسطين على وجه الخصوص، ومتوقع أن تشهد المنطقة في ظل عالم متعدد الأقطاب حلولًا سريعة للصراعات المنتشرة في المنطقة نابعة من توافقات داخلية أملاها رفع يد عدد من الدول التي كانت تُغذى وتتغذى على هذه الصراعات في المنطقة، والبدء في استغلال ثروات المنطقة، في حين تحقيق إنعاش اقتصادات الدول وما يمليه ذلك من نمو اقتصادي يعود على السكان بالرفاهية، أما فيما يتعلق بالوضع الفلسطيني فإن عوامل إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ستكون متاحة أكثر من أي وقت مضى وربما تشهد الساحة الفلسطينية تغيرات دراماتيكية على هذا الصعيد، ونتوقع أن تشهد الساحة الفلسطينية حلًّا تفرضه طبيعة العالم متعدد الأقطاب يكون أقرب لحل الدولة الواحدة متعددة الأعراق والديانات، وربما نشهد نموذجًا مماثلًا من النموذج اللبناني والعراقي ولكن بشكل أكثر تطورًا وبما يحفظ حقوق كل طائفة أو أقلية من الناحية السياسية والاقتصادية والثقافية دون أن يكون هناك ارتهان لحالة الاستقطاب الطائفي المميز للساحتين اللبنانية والعراقية، ولكنه نموذج قد يكون أقرب لنموذج الحكم البريطاني الذي يتكون من أربعة أقاليم هي إنجلترا وإيرلندا الشمالية واسكتلندا وويلز، يحكمها نظام برلماني، وتتركز الحكومة في العاصمة لندن، لكن هناك حكومات محلية في كل من بفاست وكاردييف وأنبرة وهي عواصم إيرلندا الشمالية واسكتلندا وويلز، وهي تحكم بحكم ذاتي وهذا النظام مطبق منذ عام 1800م.
قد يكون هذا النموذج أقرب إلى الحالة الفلسطينية بما يحتويه من طوائف تعيش على مساحة فلسطين التاريخية مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الخصوصية في الواقع الفلسطيني من حيث الثقافة.
هذه رؤية لها وعليها، طرقت أفكارها رأسي فأحببت أن أدونها في هذه العجالة علها تكون ذات فائدة في استشراف المستقبل الذي أصبح يزاحم الحاضر بقوة من خلال الأحداث المتسارعة التي بدأت تشكل صورة ضبابية عنه في الأفق المنظور.