تتجلّى رسائل رمضان في سماء أمّة رمضان، وتحفر عميقًا في قلب هذه الامّة لتفعل فعلها العظيم، رمضان له عدة أبعاد، إذ لا يعقل أن نُفرّغ أمعاءنا من الطعام وتبقى الأحقاد والعصبيّات معشعشة في القلوب والعقول، لا يمكن أن نصوم عن الحلال بينما نحن نرتع في كلّ أشكال الحرام، فكما أنّ له صقلا تربويا خاصا لنفوس الصائمين له جولات وجولات في كل الميادين..
له مظهر اجتماعي يأخذنا إلى طبقة الفقراء الذين ينتظرون رمضان على أحرّ من الجمر، يأتي رمضان ليسدّ حاجة الفقراء فما بال أوضاع تسيطر فيها نخبة لا تزيد عن خمسة بالمائة على أكثر من خمسة وتسعين بالمائة بينما يترك الخمسة وتسعين بالمائة من الناس ليتقاسموا الخمسة بالمائة (فتات الأغنياء). وله مظهر اقتصاديّ يأخذنا إلى أسواق وتجار وحركة اقتصادية تنشط بقدوم رمضان، كما ينبغي أن يكون له حضور قويّ وفاعل في المظهر السياسي لأمة رمضان، إذ لا يُعقل أن تجتمع الأمة على شعائر تُجرّد المسلم من هواه بينما قادة الأمة لا تُسيّرهم إلا أهواؤهم القاصرة والمنحرفة والتابعة، الصيام يجمعنا على أفعال ومشاعر وأحوال ذات هويّة ثقافية وسياسية مستقلة حرّة متميّزة عن غيرها بينما واقع الحال أنّ شعوبنا تجد نفسها خلف قادة يدورون في فلك من لا يعرفون رمضان ولا مشاعر الايمان ولا أفكار الإسلام.
والذي يضرب هذه التجليات العالية والتطبيقات الشاملة لمعاني رمضان السامية في كل الميادين هو نفر من الناس لا يرون هذا الأفق العظيم لتجليات رمضان، لا يرون المشاعر الإيجابية الهائلة التي يضخّها رمضان في كل ربوع الإسلام والمسلمين، ينظرون من خرم إبرة العصبية البلهاء، منها مثلا من يفتعلون معارك وهمية بين شعب عربي أو مسلم وآخر، فمهما كانت الأسباب والمبرّرات لهذه الحروب الوهمية الطاحنة خاصة تلك التي تستفيد من سطوة وسرعة الانتشار لمواقع التواصل الاجتماعي ووجود جمهور افتراضي واسع ممكن اللعب على عواطفه وإثارة حميّته والضرب على وتر عصبيته العمياء. مهما كانت الأسباب فهي واهية باطلة إذا وقفت أمام نور رمضان الذي يبدّد كلّ هذا الظلام.
رمضان رزمة متكاملة تقف على رأسها إقامة حياة التقوى، الأمة التي ترتفع فيها قيم التقوى فيها عالية وقوية ومسيطرة، وبالتالي تتحرّر من كل النزعات والتقاليد والأفكار والمشاعر والمسلكيّات التي تتنافر مع حياة التقوى، لا يمكن لمجتمعات تتنفّس هواء التقوى النقيّ أن تسمح لأي كان أن يلوّث هواءها ويعبث في جماليات التقوى التي ينتشر أريجها في صدور أتباعها. فرمضان هو شهر تعزيز وزراعة قيم التقوى وهذا الميزان القويم : "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، فلا مكان لمن يروّج قيم العصبيات الجاهلية وينشر طاقتها السلبية التي تدمّر الروابط وتقطّع أوصال الجسد الواحد القوي المتماسك، الاكرم في مجتمع رمضان من جعل من نفسه مصدرا لقيم التقوى فهمًا وسلوكًا وجعلها واقعًا في حياته.
وعلى سبيل المثال لا الحصر: تنتشر دعاية وتجد لها من يروّجها تحت شعار "فلسطين ليست قضيّتي"، أتفهّم أن هذا جاء كردّة فعل على من هاجم توجهات سياسية من قبل جهات معيّنة، فاختلط الحابل بالنابل ليتعصّب هذا ضد ذاك في حلقة مفرغة من الردود العصبية المتبادلة، ليقع الجميع في نخوات عصبية سوداء لا نتاج لها إلا التباعد والتنافر وخدمة أعداء الأمّة. وهذا بالطبع أيضًا لا يخفى على أحد أنه ضرب لمفهوم الامة الواحدة وضرب لقيم التقوى التي يأتي شهر رمضان ليزرعها ويعمّق وجودها في المجتمعات المسلمة.
يجمعنا رمضان على مشاعر إيمانيّة موحّدة لمواجهة الضعف الاجتماعي والتخلّف الاقتصادي والهوان السياسي، بينما هذه العصبيات تشتتنا اجتماعيا وتزيد من تخلفنا الاقتصادي وهواننا السياسي بكل ما أوتيت من قوة وريح نتنة سوداء.
يجمعنا رمضان على مصدر واحد للنور والخير والسعادة والتطوّر والصعود الحضاري والمجد والعزّة والنصر وهو القرآن الكريم لأن رمضان شهر القرآن، بينما العصبيّات تطمس على وجوهنا وتضعنا في غابة هوجاء لا نور فيها ولا توجهات حكيمة وصائبة، فمن الغريب أن تجد من لا يملكون هذا النور السماويّ موحدين رغم كل عصبياتهم التي لا حصر لها، بينما من يملكون كلّ هذا النور متشرذمين متفرقين.
يجمعنا رمضان في حرب ضروس على الشهوات والاهواء بينما تستنفر العصبيات فينا هذه الاهواء وتنجح في ضرب قيم الايمان وتجنيد بعضنا ضد بعض على أسخف الأسباب والمبرّرات.
يجمعنا رمضان على مواجهة الفقر وتجنيد ثروات الأغنياء لإسعاف حاجة المسحوقين والضعفاء، فنجد أصحاب هذه الثروات (إلا ما رحم الله) حيتان تبتلع الفرص والإمكانات ولا تدع للمسحوقين الا الفتات وما تجود به نفوسهم وقت الازمات رغم أنهم هم السبب في هذه الأوضاع.
يجمعنا رمضان على المصالح العامة ويضيّق الخناق على المصالح الانانية الضيّقة والروح السلبية النتنة بينما تنفخ العصبيات فينا كل جشعنا وسطوة روحها السوداء المدمّرة سواء كانت إثنية أو طائفية أو حزبية أو عشائرية ... الخ.
يجمعنا رمضان ويجمعنا بينما العصبيات لا تبقي فينا ما فيه خير ينتظر.