أصبحنا نرى في الغرب من ينظّر لمناعة القطيع، وهي أن تضحّي بنسبة معينة (على بعض التقديرات 3.4% غالبيتهم من المسنّين وقد تكون أعلى من هذه النسبة بكثير) من الذين يصابون بفيروس كورونا، لتتشكّل بعد ذلك مناعة طبيعية عند الذين يصابون وينجوا من الموت، ثم تقلّ نسبة الإصابة في المجتمع عامة، وممّا صفع هؤلاء تقرير منظمة الصحّة العالمية، وهو أنه لا يوجد أدنى تأكيد على أن الذي يصاب لن تعود له الإصابة مرّة ثانية.
ومنبع هذا المنحى من التفكير هو النظام الرأسمالي نفسه القائم على رأس المال والدوران في فلك المال والاقتصاد والتنمية أولًا، ليتحوّل الإنسان إلى مجرد أداة في هذه العجلة الاقتصادية، حتى إنهم ذهبوا إلى فكرة ثقافة السوق التي تخطّت وتجاوزت الأيدولوجيات وعالم الأفكار، أصبح العالم عندهم يدور حول الأشياء بدل أن يدور حول الإنسان أو الأفكار، وقد حاولوا جرّ العالم بأسره إلى هذا المستنقع بما عرف بمصطلح العولمة.
ومن هذه المنطلقات أجاز هذا العالم الغربي لنفسه أن يستعمر بلدانًا عدها متخلفة وتحتاج إلى تطوير وتعمير من طريق هذا العقل الغربي المتطوّر، ومن المبادئ الميكافلية القائمة على أن الغاية تبرّر الوسيلة، فسار قدمًا في سحق آمال وتطلعات هذه الشعوب، وحاول تسخيرها لخدمة جبروته ولإشباع نزعاته الاستعمارية، حتى عندما اضطر إلى الرحيل خرج من الباب وعاد لهم من النافذة ليبسط نفوذه الاقتصادي وليمارس الاستعمار بطرق ناعمة خبيثة، ثم إنه عاد ليراوح بين الاستعمار غير المباشر هذا والمباشر، إن اضطر إلى الأمر، فيعود من الباب بكل قضّه وقضيضه تحت مبررات شتى، منها نشر الديمقراطية ومحاربة الدكتاتوريات، وهو في الحقيقة مثبت أركانها وداعمها الأساسي بكل ما أوتي من قوة، فمثلًا أمريكا قتلت مليون عراقي مدعية أنها تريد نشر الديمقراطية في العراق ونزع أسلحة الدمار الشامل، فدمّرت البلد لعشرات السنين القادمة.
هذه شذرات سريعة لنثبت أن هذا الغرب عندما يفكر بمناعة القطيع إنما هو لا يخرج من جلده، وأنه مقابل مركزية الدوران حول رأس المال أو لنقل عبوديته للمال، التي تضبط حركته وإيقاعه في منهجية ورؤية متكاملة لا غرابة ألا يلتزم بأخلاق وأعراف إنسانية، ولا غرابة أيضًا أن يستخدم مصطلح القطيع ويسقطه على آدميته بكل ارتكاس وصفاقة وهبوط إلى هذا المستوى المنحطّ بالحضارة الإنسانية، لقد أصبح المسنون عبئًا على نفقاته المالية وعجلته الاقتصادية؛ فلا مانع من إتاحة الفرصة لهذا الفيروس من أن يخفف عن كاهلهم هذا العبء، وأصبح العبيد والمهمشين في أمريكا ومن هم غير مؤهلين لتغطية النظام الصحي الذي يعتمد المال للعلاج وقودًا لهذا الفيروس، وبالمناسبة قد ثبت أن هذا الفيروس أكثر عدالة وأبعد عن عنصريتهم فأتى على الناس دون أيّ تمييز أو تفرقة كما يفعلون، وفي بريطانيا بدأ براعي القطيع الذي نظّر لهذه المناعة قبل القطيع.
إننا نصل في هذا المجتمع الغربي إلى أن هناك فئة قليلة من البشر تتحكم بالغالبية العظمى بما تملك من مال توظفه في الإعلام، خاصة الإعلام المعاصر بكل وسائله التي تُسخّر للسيطرة على الرأي العام وعقول البشر، فمن يملك المال والإعلام يحرك العجلة الاقتصادية، وبذلك يتحكم بصناعة القرار وصناعة السياسات الداخلية والخارجية، فالوضع القائم أن هناك طبقة واسعة تعبد الطبقة الضيقة المتحكمة بكل مفاصل السياسة والاقتصاد، أي بمفهوم واضح الرضوخ أو عبادة هذه الطبقة المتنفذة، فمناعة القطيع فكرة نابعة من عبادة العباد، هذه الطبقة التي نصبّت نفسها آلهة تعبد من دون الله هي التي نتج عنها هذا التفكير الأهوج: مناعة القطيع.
وهذا يقودنا إلى العالم الذي كان سائدًا قبل رسالة الحرية رسالة الإسلام التي جاءت لتحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، اليوم للتحرّر من هؤلاء المستكبرين المستبدين الذي يهيمنون على مقدّرات العالم البشرية والمادّية ويرون شعوبهم قطيعًا، ويرون غير شعوبهم مجرّد وقود لسياساتهم السادية المتغطرسة، لا بدّ من رفع لواء تحرير العبيد بدل مناعة القطيع التي جاءت من رحم مناعة العبيد.