فلسطين أون لاين

​أشفق عليك أيتها المرأة العاملة

...
بقلم / د.زهرة خدرج

يكاد قلبي ينفطر شفقة عليك أيتها المسكينة؛ ألم ينهكك العمل؟ ألا يستنفد وقتك وحياتك؟ ألا يؤثر في صحتك، ويؤثر طول بقائك فيه على أبنائك؟ لماذا لا تستقيلين وتتفرغين لتربية الأبناء ومسؤوليات الزوج والبيت؟ أليس خروجك للعمل يحرمك ويحرم أبناءك من الكثير؟ ألا يعزلك العمل عن المجتمع ويبقيك حبيسة الوظيفة صباحًا والبيت مساءً؟ ألهذه الدرجة أنت محتاجة ماديًا لتلجئي للعمل؟ هذه العبارات والأسئلة إضافة إلى غيرها الكثير التي تدور في الفلك ذاته يلح بها الناس على المرأة العاملة ويبذلون كل ما بوسعهم لإقناعها بوجهة نظرهم وترك العمل والتفرغ للبيت والأسرة، وبما أنني واحدة من النساء العاملات فإنني أعاني من هذه القضية وأسمع حولها الكثير من النصائح والآراء والاقتراحات.

ترادوني فكرة التقاعد المبكر من العمل كثيرًا خاصة عندما أكون مرهقة جدًا لأيام متتالية دون أن يكون لدي الوقت الكافي لأرتاح وأستعيد عافيتي، أو عندما ألاحظ أن الزمن يجري بي وبأبنائي فأجدهم يكبرون أمامي بسرعة، في الوقت الذي أجد الكثير من التفاصيل التي تخصهم تغيب عني؛ أشعر حينها بالخوف من المجهول القادم الذي قد يحل بي وبهم.. إلا أنني أعود فأسأل نفسي مجموعة من الأسئلة التي تجعلني أكمل مشوار العمل بثقة: هل أنت مستعده لترك الصخب الذي تعج به حياتك بسبب العمل ومسؤوليات البيت والاكتفاء بمسؤوليات البيت والأبناء فقط، والذي سيخلف نظام حياتك الشديد بأنواع وأشكال من الفوضى، وسيترك في أيامك فجوة من الفراغ؟ ألا تلاحظين أن أبناءك يكبرون وينصرف كل منهم لشؤونه التي أنت لست الجزء الأهم من تفاصيلها اليومية على أقل تقدير؟ ألست تقدمين لهم ما يحتاجون من عناية ورعاية ومتابعة وتوجيه وتنشئة دون أي تقصير رغم عملك خارج البيت؟ انظري إلى كثير من الأمهات اللواتي يبقين في البيوت ولا يرتبطن بعمل، هل يقدمن لأبنائهن ما تقدمين ويربينهم على الاعتماد على النفس كما تفعلين، ويناقشنهم ويشجعنهم ويتقبلن أخطاءهم دون الكثير من اللوم والتقريع كما تشجعين وتتقبلين؟ أليس صحيحًا أن خروجك للعمل وغيابك عنهم لبعض الوقت يشحن عواطفك تجاههم فأجدك تعودين للبيت وشوقك لهم يحرقك ويجعلك غير مستعدة للخروج من البيت بقية النهار إلا لظرف قاهر، وهو ما يجعلك أيضًا تتغاضين عن كثير المخالفات التي تقيم غيرك الدنيا ولا تقعدها إن فعلها الأبناء، فتلجئين لاستبدال العصبية والصوت المرتفع بالنقاش بهدوء وروية وتوجيههم وإقناعهم؟ ألا تلاحظين أن طريقتك في تربيتهم رغم غيابك عنهم لبعض الوقت تجعلهم يتمتعون بصفات تتمنى كثير من الأمهات لو يمتلكها أبناؤهن؟

ربما يجب أن تكوني صريحة أكثر، وتعترفي بالحقيقة بشفافية ومن دون مواربة.. هيا اعترفي أنك تحبين العمل! حتى وإن كلفك حبك هذا ضريبة مرتفعة الثمن، واعترفي أيضًا أنك وفي فترة سابقة عندما تغيَّبتِ عن العمل لعدة أشهر لظرف ما أصبحت تشعرين وكأنك لا قيمة لك في الحياة، وأخذت تشعرين وكأن كل الأشياء تملي نفسها عليك وتشعرك وكأنك فقط تطيعين وتنفذين.. كوني صريحة واعترفي بأن العمل يلتهم وقتك وصحتك.

صحيح.. أعترف بكل ذلك، ولكني أعترف أيضًا بأنني لا أستطيع أن أمضي وقتي كباقي النساء العاديات في مشاهدة مسلسل تركي أو هندي لساعتين يوميًا لمئة يوم أو يزيد، لأتابع تفاصيل مملة ليس أولها كيف يعاني البطل من بُعد البطلة عنه وكيف يتحدى الظروف والمجتمع ليفوز بعناق أو قُبلة منها، كما أن ليس آخرها هو الطفل الذي أنجبته البطلة ويعاني من الحمى التي تستلزم تنقلها بين المستشفيات.

وأعترف أنني لا أستطيع أن أحمل الموبايل لأُحادث الصديقات والقريبات والجارات على الواتساب أو الماسنجر لساعات، وأراقب كل ما يدور في البلد وأواكب جميع الأحداث من خلال الفيس بوك ومجموعات التواصل الأخرى.

وأعترف أيضًا بأنني لا أهوى التسوق وإمضاء الوقت داخل الأسواق للاطلاع على آخر صرعات الموضة في الملابس والاكسسوارات ومساحيق التجميل والأحذية والحقائب وغيرها.. ومتابعة آخر أخبار العروض والتنزيلات.

كما وأعترف بأن الحفلات العصرية بشتى أنواعها لا تستهويني، فلا أنا مستعدة لإهدار وقتي بحفلات أعراسٍ ولا نجاحٍ ولا غيرها.. فوقتي ثمين.. فأنا أم تعمل نصف النهار، وتحث الخطى بعد ذلك للبيت لتمضي باقي النهار وشطرًا من الليل برفقة أبنائها تتابع شؤون تربيتهم وتغدق عليهم من حبها وحنانها ما يحتاجون.

أعترف بأنني أحب العمل الذي يجعلني إنسانة فاعلة في المجتمع، لها مكانتها ورأيها الذي يحتكم به الناس.. فأنا حفيدة أم عمارة وأسماء وسمية اللواتي حملن عبء الرسالة على كاهلهن، واللواتي خرجن يسندن ويدافعن عن الإسلام بكل ما أوتين، حفيدة مَنْ ربَّيْن القادة والمجاهدين والفاتحين وسادة الأمة وعلماءها في الوقت ذاته.