عندما ظهرت كورونا وبدأت تتفشى شيئاً فشيئاً، بلغت القلوب الحناجر في غزة، بلد الاثني مليون نسمة وأعلى كثافة سكانية في العالم، وأكثر بقاع الأرض فقراً، وأعلى معدل بطالة في العالم، والمحاصرة منذ ثلاثة عشر عاماً، لا يدخلها إلا ما تيسر من غذاء، وما يغطي نصف احتياجاتها من دواء. ينظر الغزيون في أنفسهم أنهم رواد حتى في أتون الحصار والفقر والجائحة التي تغطي العالم ولم تترك منطقة إلا حطمت معالم مظاهرها اليومية، وأحدثت شللاً في تفاصيل حياة الإنسان بدقتها وبساطتها. فمن كان يصدق يوماً أن يعجز العالم في مقاومة الوباء وتنتفض غزة وتُفعّل كل ما لديها من إمكانات حتى وصلت إلى إعادة تشغيل عدد من المصانع المتخصصة في بعض المعدات الوقائية والتي يفتقد العالم لها اليوم، وتتحرك للحصول عليها أجهزة مخابرات العدو وشركات عالمية وقوى أخرى خارجية؟.
من بين تلك المصانع ما أُغلق نتيجة الحصار الإسرائيلي ومَنْع معداتها اللازمة لعمليات التشغيل، ومنها ما تعرض للقصف والدمار نتيجة العدوان المستمر على قطاع غزة، ومنها ما أعلنت إفلاسها واعتُقل مالكوها على ذمم مالية لعدم قدرتهم على تغطية نفقاتها، فهل جزاء هذا الخراب والدمار والحصار أن تُصدّر غزة الأقنعة والمعدات الواقية لعالم صمت أمام الحروب والدماء النازفة وقتل الآلاف من أبنائها وهجر الآلاف من شبابها إلى أحراش تركيا واليونان وبعض البلدان التي يظن البعض انها ستكون مأوى يأوي طاقاتهم وطموحهم المفقود؟ فمن أي جنسٍ من البشر أنتم يا أهل غزة؟ وأيُّ وفاء هذا الذي يحرك ضمائركم؟ وأيُّ ضمير هذا الذي تملكونه ليقودكم نحو هذا الإبداع في العطاء؟.
لم يقتصر الأمر فقط على تصدير الكمامات لأوروبا وكاليفورنيا إحدى الولايات المتحدة الأمريكية، بل كشفت الجائحة عن براعة نخبة من الأطباء الفلسطينيين الفدائيين، الذين سبقت نخوتهم مهامهم الوظيفية في تقديم المساعدة للمصابين بالفايروس، بل ضحوا بأنفسهم وهم في أوج مواجهة الوباء، ومن بين هؤلاء الروّاد العظماء، الطبيب نبيل خير المقيم في إيطاليا، والطبيب هشام حمد والذي وافته المنية بإسبانيا وهو على رأس عمله، والدكتور الصيدلي سيف تيتي، والذي توفي في ولاية نيوجيرسي بالولايات المتحدة الأمريكية. جميعهم أصحاب رسالة سماوية، يقدمون أجل وأقدس خدمة إنسانية، صدقاً وعهداً ووفاءً.
ولعلّ العالم يدرك اليوم أن غزة التي يبيت اسمها بين جدران قصورهم وهم يكيدون لها كيداً عظيماً، أنه لا بد أن يعيدوا قراءة مواقفها الإنسانية والتي تفوقت على مواثيق حقوق الإنسان والقانون الدولي، وضربت أمثلة تُعد خيالاً واسعاً لدى مدّعي الإنسانية والذين لم يقدموا للإنسان سوى الهلاك والموت.. غزة تتقدم الصفوف وفق تقارير منظمة الصحة العالمية في مكافحة الوباء، وتتفوق على نفسها بإذن ربها سبحانه وتعالى، وتجند طاقاتها وإمكاناتها وتسخرها خدمةً للإنسان في كل مكان على الأرض دون تمييز أو محاباة، وتتمسك بمبادئها الإسلامية التي تُعد مرجعاً وحيداً لتوظيف سياساتها وأدواتها في التعامل مع الجميع في ظل جائحة كورونا، فهل ما فعلته غزة وما تقدمه اليوم سيبطل السحر ويطمس على قلوب السحرة، ويُخزي الخراصون والأفاكون؟.