أذكر في تسعينات القرن الماضي حينما كنا في سجن جنيد وكان يأتينا معتقل منقول من النقب، نطلب منه وضع أشيائه وسط الغرفة ثم نفتّشها تفتيشا دقيقا بحثا عن حشرة البقّ، نمحّص دفاتره وملابسه وكتبه، فتسريب البق من المعتقلات حينها الى غرف السجن المركزي مصيبة ما بعدها مصيبة، كانت تنتشر في الخيم بين "أبراش" الخشب فتقضّ مضاجع الاسرى ويفضلون النوم خارج الخيمة عرضة للفئران الصحراوية والعقارب والافاعي هروبا من هذه الحشرة اللئيمة، كانت تقوم بعملية التخدير فتنهب من دم النائم حيث شاءت دون شعوره حتى اذا فرغت وانسحبت الى مواقعها الخفيّة وذهب أثر التخدير استيقظ الأسير على لدغاتها واكتشف الاثار المؤلمة.
واذكر أن أحد المعتقلين في سجن النقب طلب مني أن أكتب عن البق في السجون فقلت أن هناك أمورا أهم بكثير من هذه الحشرة الصغيرة وعندما صرت في النقب وذقت من ويلاتها أدركت كم أن هذه البقة مريعة ومقرفة ومؤلمة وخبيثة، وكان ممثلو المعتقل يطالبون إدارة السجن برشّ المبيد الذي يقضي على هذا الوباء ولا حياة لمن تنادي، كانوا يتلذّذون على عذابات الاسرى كما هو حالهم في أمور كثيرة مثل الإهمال الطبي والتغذية والتهوية والتفتيش والقمع والبوسطة وما يفعله بزيارات الاهل والمحاكم والاعتقال الإداري والعزل وكل صنوف العذاب لهذه الزبانية التي تمارس ساديتها كما تتنفس .
ومن الأمثلة على قدرتهم على احضار المبيد المناسب للخلاص من هذه الحشرة أنه كان (على سبيل المثال) في سجن عسقلان تنتشر الصراصير بكل أنواعها، ولما تنتشر بطريقة مريعة ويتقزز منها السجانون بحيث عندما ترفع شيئا تجد تحته عشرات الصراصير، تجدهم يحضرون مبيدا فلا تجد بعدها أي صرصور لفترة طويلة.
اذاً هم قادرون أن يقضوا على البقّ ولكنهم لا يريدون.
ودار بيننا نقاشات طويلة لنكتشف في نهاية المطاف أن هناك تشابها كبيرا بين السجان والبقّة، الاثنان يأتي من قبلهما العذاب والاشمئزاز والملاحقة القميئة الذميمة للانقضاض على راحة هذا المعتقل، مشتركان في اللدغ واحداث الألم ومحاولة مص دماء وزهرة شباب هذا الأسير، فكيف اذاً سيفكر السجان بالخلاص من هذه الحشرة التي تكمّل دوره أو أنها تقوم بذات الدور؟؟
لم ينته زمن البقّ الا وأتى زمن فيروس الكورونا فهل هذا السجّان معنيّ بتجنيب الاسرى وباء الكورونا ، فإذا قسنا الامر بتصرفه اتجاه البقّ فسرعان ما نصل بأنه معنيّ جدا بإغراق السجون في هذا الوباء، ثمّة فرق بالنتائج المهولة فيما لو "لا سمح الله" تفشّى هذا الفيروس في السجون، هل سيحتمل المسئولية عن هذه النتائج التي ستكون عواقبها وخيمة الى أبعد ما يصله خيال هذا السجان ومن يقف وراءه من حكومة يمينية في غاية العنصرية والتطرّف.