«أمنيتي يطلع قبل ما أموت ولو دقيقة.. صار عمري 66 سنة يا عالم أشوفه ولا لأ».. حبل الأمل لم ينقطع لدى والدة الأسير أكرم القواسمة (46 عامًا)، تتمنى أن يأتي اليوم الذي ترى ابنها محررًا أمام البيت، لتقيم له مراسم الزفاف وترى أبناءه، تتجرع مرارة الشوق ولهفة احتضان ابنها التي لم تحصل عليها إلا ساعة التقاط صورة تذكارية داخل السجن وهي فرصة لا تتكرر إلا مرة كل خمس سنوات.
خمسة وعشرون عامًا تأكل من عمر الأسير أكرم القواسمة وتذبل معها حياته؛ دخل سجون الاحتلال وهو بعمر الزهور حينما لم يتجاوز الـ(21) سنة؛ واليوم طرق الخامسة والأربعين سنة مقيدًا خلف قضبان الاحتلال.
28 مارس/ آذار 1996، الساعة السادسة صباحًا، خرج أكرم إلى عمله بعد تناوله الإفطار مع والدته، وبعد ساعات بقي لغياب الشمس لحظات، عاصفة الخوف تثير غبار القلق في قلب والدته، لتحمل نفسها وتذهب لصاحب العمل، تعبر عن خوفها: "وين أكرم لهلقيت ما روحش"، ما قاله لها: "اليوم ما أجاش"، أشعل كل أحاسيسها وتفكيرها في البحث.
رغم أن تلك التفاصيل مر عليها ربع قرن، لكن أم أكرم تحفظ تفاصيلها بدقة، وكأنها حدثت أمس، في حوارها مع صحيفة "فلسطين" تنبش في ذاكراتها عن تلك اللحظات: "بعدما خرج باكرًا؛ اعتقلته قوة إسرائيلية وأخذته إلى مركز تحقيق "المسكوبية" بالقدس، واتهمته أنه ضمن مجموعة "راس العمود".
ستة وثمانون يومًا، مرت على العائلة لم تسمع خبرًا عن أكرم ولا حتى صوته، لكن بعدما خرج من التحقيق، أعطيت والدته عشر دقائق للجلوس معه قبل نقله إلى سجن "عسقلان".
تدخل الغرفة لتجد رجلًا ذا لحية طويلة وشعر يحجب الكثير من ملامحه فلم تعرفه، لكنها حاولت التأكد من نبرة صوته: "أنت أكرم؟.. احكي أنت أكرم ولا لا؟"، تقول: "لم أعرفه يومها، لكن حينما سمعت صوته، تأكدت أن الاحتلال مارس عليه تعذيبًا وحشيًّا لدرجة جعلني أشك أنه ابني".
مدى الحياة
في السجن توالت جلسات المحاكمة، واعتقدت العائلة أن الحكم على ابنها سيكون مخففًا لكونه أصغر أعضاء المجموعة المقاومة، ودوره فيها، والدته تحفظ المشهد جيدًا وفي صوتها تنهيدة معتصرة بألم تلك اللحظات: "توقعنا أن يصدر الحكم بالسجن لعدد من السنوات، لأن ابني كان السائق، ونقل المجموعة من مكان لآخر، ولكن قرار القاضي بسجن أكرم مدى الحياة مرتين وقع علينا كالصاعقة".
تروي والدة أكرم حجم التغير في حياة ابنها، فلحظة أسره كان عمر شقيقه طارق ستة أشهر، والآن طارق متزوج ولديه طفل، كما أن جميع إخوته الخمسة تزوجوا، وأصبح لديهم أولاد وزوجات، وتوفي والده ولم يستطِع إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، طرقت والدته السادسة والستين وهي تحلم بأن تضمه وتزوجه قبل أن تفارق الحياة.
وضع صعب
منذ شهرين ونصف منعت أم أكرم من زيارة ابنها نتيجة تفشي فيروس "كورونا" في دولة الاحتلال، يحدثها ابنها الموجود في سجن ريمون عبر الهاتف لمدة ربع ساعة ثلاث مرات أسبوعيًّا، تنقل عنه: "قال لي عن صعوبة الوضع داخل السجون، وأن الأسرى يخشون انتقال فيروس كورونا إليهم، وأن الاحتلال قلص فترة خروجهم للفورة (ساحة السجن) وأصبحت لربع ساعة فقط".
طوال مدة أسر نجلها كان الاحتلال يسمح لها بزيارته مرة واحدة شهريًّا، تستيقظ الساعة الرابعة فجرًا وتصله بعد عدة ساعات منهكة، لكن بالنسبة لها رؤية ملامحه وابتسامته يزيل كل مشقة الطريق عنها، وكانت تتمنى لو يرفع العازل الزجاجي الذي يفصل الأسير عن ذويه في السجن وتستطيع معانقته وملء شوقها باحتضانه، لكن السجون تأبى إلا أن تفرق الأهل حتى لو كانت المسافة أقصر من كفة اليد.

