عند سماعي خبر ترجل أم المجاهد البطل إبراهيم حامد ورحيلها إلى مثواها الأخير ارتسمت سلواد أمام عينيّ شاخصة باكية، تذرف الدمع على صنو روحها ، على من احتضنت سكناتها وحركاتها وكلّ ما في حياتها، نشأت وترعرعت في بيئة طيبة ، ومع طيب هذه البلدة كانت عصيّة قوية تعرف كيف تواجه من اعتدى وظلم وتجبّر فأذاقت الاحتلال منها بأسها الشديد.
فسلواد في القمة تتربّع على رؤوس جبال شماء، لم ترض لنفسها القيعان والوديان وعيش الدون من الحفر ، راحت تعلو وتسمو حتى أرست قواعدها على رؤوس الجبال السامقة، وأم المجاهد إبراهيم (الذي حكموه اربعا وخمسين مؤبدا)، كذلك لم ترض بحياة البؤساء الذين يستسلمون ويرفعون الرايات البيضاء أمام قوى البغي التي يبدو أنها لا تُقهر، فإذا بابن من أبنائها يقهرهم ويذيقهم شرّ صنائعهم، لقد نجحت أن تصنع رجالا وأيّ رجال، رجل بألف رجل زرعت فيه قيم البطولة وجعلت له همّة تناطح السحاب وعزيمة لا تلين، واجه دولة وسجل انتصارات كثيرة في زمن صعب أحيطت به مقاومة هذا المحتلّ من كل جانب.
كيف نجحت أيتها الخنساء فيما لا تنجح فيه أعتى الكليات العسكرية؟ كيف زرعت هذه العقيدة القتالية وكيف جعلت روحه روحا سماوية لا تبغي سوى شهادة عزيزة او حياة كريمة لا يسوء وجهها احتلال بغيض كهذا، لم تكن المهمة سهلة أبدا لولا رعاية أمّ مثلك تعرف كيف تزرع وكيف تتابع وتنمي زرعها الى أن يستوي على سوقه ليعجب الزراع ويغيظ به الكفار.
تجلّت في حياتها المديدة كل أشكال المعاناة والالم فكانت تواجه بصمت، تتغلّب عليها وتعتبرها فرصة ذهبية لاثبات نجاحها، كان ايمانها ببساطته وعمقه وقوة حضوره يمدّها بقوّة الاحتمال وعزيمة الصبر وإرادة العمل، وكانت تعمل على كلّ الجبهات والتي أهمها اسناد أسدها الدائم، فترة اعتقاله ومطاردته ثم اعتقاله الأخير، ولكل مرحلة من هذه المراحل قصص أخذت سرّ أغلبها معها، لم تكن تفزع أو تخاف فيتسرّب الخوف من قلبها الى قلبه بل بالعكس تماما كان لها قلب شجاع يفيض قوّة وعنفوانا، ترنو اليه بقلب أم رؤوم وفي ذات الوقت تريده قويّا شجاعا مقداما في ميادين الجهاد والثورة.
شُيّعت بالأمس الى جنة وسعت زرعها في دنياها المديدة، سافرت الى حيث المستقرّ والدار الباقية الأبدية لتجد هناك حصاد ما قدّمت، خرجت من الدنيا نظيفة اليد، طاهرة القلب، غنية النفس، نورها يسعى بين ايديها، جناحي ابنها إبراهيم ترفرف فوقها وتظلل روحها، يا أيتها النفس المطمئنة ، النفس الصابرة الراضية القوية الشامخة، أيتها النفس صانعة الرجال حان وقت الثواب : ارجعي الى ربك، ارجعي الى من آمنت به وعملت كل ما يرضيه عنك فكان لك أن يرضيك بما وعد به أولياءه فأنت اليوم راضية مرضية ، وكان لك أن تسجلي في نادي عباد الله وأن يكون هذا النادي جنة الخلد التي وعد عباده المتقين: فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.
ما أعظم خنساوات فلسطين يعملن بصمت ويرحلن بصمت، نساء يصنعن المستحيل في الزمن الصعب، تبقى نماذج عالية في واقع مرير، على ما يبدو ما زال صراعانا طويلا وما زلنا باستمرار بحاجة الى أن نستلهم ونستعيد روحنا من هذه النماذج.