كان الخبر فاجعة حلّت على قلوبنا، أن تتم جريمة القتل من خلال الحرق! ورغم أن هذه الجريمة شاذة عن مألوف حياتنا الفلسطينية وعن كل القيم التربوية التي يتحلى بها غالبية شعبنا، فإن جريمة تقع بحق فتى في مقتبل العمر وتحرق زهرة شبابه بهذه الطريقة البشعة المتوحشّة، لهو ناقوس خطر يهزّ أركاننا ويحرق قلوبنا ويضع كلّ قيمنا التربوية في مهبّ ريح هذه الجريمة العاتية. هذا الأمر يضعنا أمام وقفة تربوية جادة ويضعنا أمام معالجات عاجلة وصارمة قد أصبحت ضرورة وتحدّيا خطيرا، وإن لم نفعل اللازم ستشهد الأيام القادمة كل ما هو خطير وصادم.
ما هي طبيعة أصحاب هذه القلوب التي أجازت لنفسها أن تتجاوز كل الخطوط وتقدم على هذه الجريمة؟ هل قدّت من صخر أم هي كالحجارة أو أشدّ قسوة؟ ما هي طبيعة النشأة التربوية؟ وما هي مكونات هذه النفوس؟ وما هي الدوافع والاتجاهات النفسية التي تصنع مثل هذا الفعل؟ ثم ما هي طبيعة البيئة التربوية التي تنتج مثل هؤلاء القاسية قلوبهم؟
أرى أن على كل المهتمين بالشئون التربوية والقائمين على الفلسفة التربوية لهذا الإنسان الفلسطيني أن يقفوا بعد هذه الحادثة مع أنفسهم وقفة طويلة، وقفة مع الحقيقة الصارخة والإجابة عن هذا السؤال: أين الخلل؟ وأين مكمن الخطر في تركيبة هذه الشخصية؟ لدينا من جرائم القتل وحوادث الاعتداء ما دون ذلك كثيرا، ولدينا هذه التي بلغت ذروة الإجرام. كيف نحدّ من هذه الظاهرة؟ المسألة ليست موعظة سريعة أو خطبة عصماء أو مقالا في صحيفة، المسألة دراسة تربوية تضع اليد على الجرح، وهنا لديّ تساؤلات:
• هل ما تقوم به المؤسسات التربوية التي تتعهد الإنسان الفلسطيني (المدارس والمساجد والمراكز الثقافية والإعلام) منذ نعومة أظفاره بدورها في عملية البناء النفسي والتربوي المطلوبة، وهذا لا يحتاج منا إلى إجابة سريعة، على سبيل المثال هذا الذي يسمّى قلب الإنسان هل نجحنا في زراعة مخافة الله فيه ونحن نعلم أن رأس الحكمة مخافة الله؟ هذا القلب بشكل عام هل أوليناه الاهتمام بما يجعل منه قلبا سليما طيبا لينا مرهفا ومسكنا للقيم التربوية الإيجابية التي نريدها من إخلاص وصدق ورحمة ولين وسماحة وإيثار وتضحية وحب للآخرين كما نحب لأنفسنا؟
• وهنا نعود للفلسفة التربوية ونسأل أنفسنا: ما هي أولويات البناء التربوي للإنسان الفلسطيني الذي نريد؟ وما هي الرؤية والرسالة والأهداف؟ وماذا نريد بالفعل؟ وهل مناهجنا تنسجم مع رؤيتنا الفلسفية للتربية التي نريد؟
• هل هناك تغذية راجعة بحيث نقيم ما أنجزنا في عملية البناء التربوي وما أخفقنا وما هو النقص وكيف نعمل على بناء تربوي تراكمي؟ وكيف نستخلص العبر ونكمل النقص ونقوّي الضعف ونخطو خطوات جوهرية للأمام؟ وكيف نلحظ ما يسير بنا للخلف؟ مثلا دور المساجد وما تقوم به في زراعة القيم وتنمية السلوك التربوي والتأهيل المطلوب للأئمة، والاستفادة من الجهود التطوعية، واضح أن مساجدنا هذه الأيام تقتصر غالبا على خطبة الجمعة، وهذه لا تفي بالغرض قطعا ولا تعدو عن دغدغة المشاعر، وهذه حالة قوة خطيبها، في حين هي في الأصل تأتي تتويجا لعمل تربوي طيلة الأسبوع. التربية الدينية تحتاج منا إلى إعادة الاعتبار وتفعيلها بصورة أفضل بكثير مما عليه حال مساجدنا هذه الأيام.
• ثقافة المجتمع ومدخلات هذه الثقافة خاصة في عالم انفتحت فيه الثقافات وأصبحت الثقافة العالمية تهيمن على الثقافة المحلية ولا تقوى هذه على الصمود والثبات في وجه تلك الوافدة، في عصر النت وغلبة الوجبات السريعة المصورة أصبح التحدّي كبيرا وأصبحنا بحاجة إلى العمل الكثير، والسؤال: كيف نحصن هذه الثقافة؟ وكيف نسعى لتطويرها وإثبات هويتنا بالصورة المطلوبة؟ وهذا يحتاج إلى تفعيل أدوات عصرية من بوابة المنافسة والقدرة على جذب انتباه أبنائنا، منها الفن والمسرح والعالم المفتوح للصورة بكل أشكالها.
مما لا شكّ فيه أن العمل على تخفيض نسبة الجريمة يتناسب طرديا مع مجهودنا التربوي والثقافي طبعا بتكامله مع البعد القانوني الرادع، حيث يزغ الله بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن.