صوت الإسعاف في الخارج يقترب نحو الخيمة الطبية التي تتواجد فيها المسعفة سندس عاشور، كانت حركة المسعفين أسرع في إنزال الحالات القادمة، مما آثار تساؤلاتها الداخلية: «ترى ماذا حدث؟ وما نوع الإصابة؟.. لكل مسعف عمل في مخيمات العودة، شهادات حية ومواقف لا تنسى؛ على جرائم الاحتلال بحق المتظاهرين السلميين، سندس عاشور (28 عامًا)، عملت مسعفة وممرضة متطوعة مع جمعية الهلال الأحمر منذ سبع سنوات، كان 30 مارس/ أذار 2018م، نقطة الانطلاق في تطوعها بإسعاف المصابين والجرحى بمسيرات العودة.
عاشت "عاشور" مواقف صعبة وخطرة كفنت شهداء وتعاملت مع أصعب الحالات، تقول: "تعامل الاحتلال بوحشية مع المتظاهرين السلميين، تعمد استهداف المناطق الحساسة في أجسادهم للقتل وإحداث إعاقة"، مضيفة: "بأي قانون يقتل متظاهرا سلميا لأنه رفع العلم على السياج، أو ألقى حجرا لم يصل الجنود؟".
أسلوب وحشي
"أسلوب جنود الاحتلال وحشي ارتكبوا جرائم حرب أمامنا.. اذا رأوا شابا يعلق علما على السياج يقنصونه، وإذا كان لمتظاهر يقف على مقربة من السياج يقتلونه، وإذا قنصوه وحاولنا التقدم لإسعافه يطلقون الرصاصة حولنا أو قنابل الغاز لتأخير الإسعاف وذلك للتسبب بإعاقة له".. هذه بعض الانتهاكات التي ارتكبها جنود الاحتلال.
تمر مشاهد كثيرة من تلك الجرائم تروي عاشور ذلك: "ذهبت برفقة زملائي لإسعاف مصابين، وفجأة ألقت علينا طائرة صغيرة قنابل غاز سقطت إحداها على رأس مسعف، واختنقنا، واحتجنا لمن يسعفنا، وفي أخرى استطعنا اجلاء مصابين بسيارة اسعاف ونحن عائدون سقطت قنبلة اخترقت سقف الاسعاف وامتلأ بالغاز، عشنا يومها لحظة صعبة شعرت أن روحي ستغرق من الاختناق والحرق بالعينين، بصعوبة تحسسنا يد الباب حتى خرجنا".
أن ترى طفلا صغيرا ينادي على والديه ولا تستطيع فعل شيء، أن ترى شابا مصابا يحمله شبان تتدلى قدمه المبتورة وتوشك على الانفصال عن جسده، وفتاة تشتعل من قنبلة الغاز لا تستطيع الاقتراب منها، نزيف بالرأس بالفخد، يصلك مصاب تحدثه ويتحدث اليك وتوقف له النزيف وفي اليوم التالي تسمع خبر استشهاده لأنه فقد الوعي بعدما غادرك، مواقف جعلت عاشور في حيرة في وصف الألم الذي يرافقها كذكرى أليمة.
"في كل القوانين هذا إجرام بشع، كنا نبذل قصارى جهدنا لإسعاف المصابين، نربط "الوريد المغذي" بأكبر قدر من الشاش حتى يتوقف النزيف لغاية وصوله للمشفى، رغم أن جنود الاحتلال يستهدفون أشخاصا تكون مسافة وصولنا إليهم أكبر من ثلاث دقائق حتى يصعب انقاذ حياتهم"، تقول "عاشور".
صراخ قرب السياج
في أحد أيام التظاهرات، يتفقد المسعف ثائر أبو شعر بسيارة الاسعاف السياج الفاصل للتأكد من عدم وجود شهداء أو مصابين، قبل أن يسمع صوتا لرصاصة على بعد نحو 500 متر تجاه الجنوب منه. تبع الصوت صراخ وألم، نزل من الاسعاف وتحرك مسرعا بحمالة الإسعاف، ليجد شابين أحدهما مصاب بقدميه واحدة منهن مبتورة من أثر الإصابة، والآخر صديقه الذي لم يصب ويقف مندهشا خائفا لا يعرف ماذا يفعل.
يقول أبو شعر، لصحيفة "فلسطين": "في يوم الأرض، لم نكن مهيئين لحدوث جرائم وإصابات بالمئات، بدأت الجمعة الأولى هادئة وفجأة انقلبت الأمور ووقعت مئات الإصابات".
"كنا كمسعفين أحيانا نضع ستة مصابين في سيارة الإسعاف، رغم أنها مخصص لشخص واحد، كان الاحتلال دائما يتعمد القتل، لا يميز بين طفل وامرأة أو كبير سن، أتذكر حتى الحيوان لم يرحمه حينما قنص حصانا قرب السياج لأنه يجر عربة تحمل إطارات سيارات.
يخرج تنهيدة، يحرر بعض المشاهد من ذاكراته: "أحد المصابين، أصيب بطلق ناري في البطن، قمت بوقف النزيف له بلف الشاش، لكن وخلال نقله بالمشفى توقف قلبه للمرة الأولى، على الفور وضعت يدي فوق الأخرى وبدأت بإجراء عملية انعاش قلبي ورئوي له، فعاد نبضه".
وبعد لحظات توقف النبض مرة أخرى، وأعدته بنفس الطريقة، ومن ثم توقف النبض مرة ثالثة وأعدت نفس المحاولة حتى عاد نبضه، وأوصلته إلى المشفى، لكن!؛ .. للأسف بعد نصف ساعة علمت أنه استشهد".
من المشاهد المؤلمة له محاولة اسعاف الشهيد الطفل عثمان حلس، وإجراء عملية انعاش قلبي له، لكن كانت اصابته خطرة بعدما اخترقت رصاصة متفجرة قلبه وخرجت من الجهة الأخرى، إلا أنه تقدم نحو السياج، أما هنا كان الأمر صعبا كذلك: "ذهبت لتفقد مصاب فوجدت شخصا ينادي باسمي، وكان متألما، فالتفت للخلف فوجدته أخي، قمنا بالتعامل مع الحالتين ونقلهما للمشفى (..) دقائق أمام المسعف لوقف النزيف، وأصعب أنواع النزيف هو الفخذ لاتصاله مباشرة في القلب".

