يتعرض بعضُنا لمحنة السجن ظلماً أو قهراً لأمر لا يد له فيه، أو لأمر واجبٍ لا بدّ منه، يعالج صعوبة الأمر أوّلَ صدمته بالتفكير في معناه، وأكثر ما يطرأ عليه حينذاك هو أثر ما يتعرّض له على أهله وأسرته وعمله ومسؤولياته، ويتفكّر في مواقف الناس وكيف سيتصرفون تجاه عائلته، وكيف ستتدبر العائلة نفسها، من سيوصل الأولاد للمدرسة، ومن سيحضر لهم الحاجيات ومن ومن...
أول دخوله بين الجدران تنفتح عيناه على الجدار فيراه حاجزاً سميكاً يعزله، ويرى حريته تنتفض بين شرايينه وتتجسد أمامه ثم تتقمّصه، فتسيطر على جوارحه كلها، وتعطيه منظارها للحياة؛ فعيناه الآن تحلقان نحو السقف وتدوران في كل ركن، وتسبحان في أعماق القدمين تبحث عن منفذ ضوء، ويداه تتلمسان سطوح الجدران، وتضربان عليها بحثاً عن رقّة فيها أو مدخل خفيّ مستور، وقدماه تضربان الأرض لعلها تهوي فينفتح تحته نفق إلى الأرض، وأذناه تتسمّعان الهمسات إذ لا صوتَ يبقى هناك إلا صوت حركات الأقدام، وصياح السجّانين، وأحاديث المأسورين المحبوسين...
يصبح المأسور شفّافاً حسّاساً يسمع أكثر وأبعد مما كان يسمعه، بل يكاد يسمع دبيب الصراصير ووقّع أقدام تسلّلها، وإيقاع قطرة الماء البيضاوية الصغيرة الساقطة من فم الحنفية على أرضية خشنة حين تنفقع استدارتُها بزاوية مجهرية حادة في تلك الأرضية.
الأصوات الصاخبة تنخفض وتتلاشى، فتُخرِج الأصوات الخافتة رؤوسها وتحرّك نغماتِها، فتصبح الهمسات صوتاً بالغاً بإمكانك أن تميِّز فيه الحدّة والرخاوة، والهزل والجدية.
تتضخّم أدوات الشعور وتكثر حولها مراكز التحليل، فيتعالى التوتّر، ويصبح لكل معنى وجوه أخرى من الدلالات والمعاني الباطنية، حتى إن العدم يصبح معنى قابلاً للتأويل، فتكثر الاستنتاجات القائمة على الفراغ بعد منحه أرضية له...
يأنس الأسير بالطير العابر، وينسج معه خطوط وصلٍ مشفّرة، وذلك أن الأسير يضع عينيه في عيني الطائر، ويجعله يطوف فوق بلدته، ويقترب من مشاهد عائلته، وتأتيه التقاطات الطائر الجويّة في مناماته الطويلة وأحلامه المنتظَرة، ويظل الأسير يرسل طائره لمتابعة كل جديد من الصور المتخيّلة.