حروبٌ همجية مسعورة شنَّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة على مر السنوات الماضية لم يتوانَ لحظة واحدة في أن يُحدث جرحًا وشرخًا كبيرًا في حياة الفلسطينيين من خلال سياسته الحربية في القصف والبيوت المدمرة.
عدد الشهداء والجرحى والأشلاء المتناثرة التي وُضعت في خانة الذكريات المؤلمة لدى محمد أبو حشيش ولم تفارقه، لا سيما بعدما استُشهد أخوه في الحرب الأخيرة على القطاع 2014م، فاضطروا إلى دفنه بعد أن أُنهكت عائلته بالبحث عن ذراعه، ولم يجدوها، فكانت فكرته للانطلاق وتسليط الضوء على معاناة أهالي الشهداء تجاه هذه القضية، فما كان منه إلا استثمار فنه التشكيلي لإنتاج عملٍ يجسد أطراف الشهداء التي فُقدت في الحرب.
تطويرٌ مستمر
محمد أبو حشيش (29 عامًا) أنهى دراسته من كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصى، قطع الطريق على نفسه بدلًا من الانتظار طويلًا في طوابير البطالة، فعمل في المجال الحر بالتصميم والديكور الداخلي، حتى حالفه الحظ في الحصول على وظيفةٍ حكومية كمدرس للتربية الفنية.
يقول: "يجب على الفنان أن يعايش معاناة وقضايا شعبه، لتكون ريشته رسالة ناطقة باسمهم، فبعد استشهاد أخي "هاني" ودفنه دون ذراعه شعرتُ بأنها قضية تُلامس القلوب من ناحيةٍ إنسانية، لا سيما أن الإنسان في فترة حياته على هذه الأرض له كرامة، وبعد موته له كرامة وهي دفنه".
وأضاف أبو حشيش: "مؤلم ما يحدث مع الشهداء فتكون جثثهم أشلاء، فشعرتُ أن كرامتِهم قد سلبت منهم بسبب أن أجزاء من أجسادهم لم تُدفن معهم"، لتكون هذه القضية شغلي الشاغل لأنتج لهم أعمالًا فنية تليقُ بهم، ومادتها شمع العسل.
ولأول مرةٍ يستخدم "شمع العسل" كمادة خامٍ في النحت، لكنه رأى أنها مادة تليق بمقامات الشهداء الذين أفنيت حياتهم على تراب الوطن، فجسد فيها أشكالًا فنية لأطراف الشهداء من الشباب والنساء والأطفال، مشيرًا إلى أن هذه المادة عضوية وهي قريبة من الإنسان، كما أن لونها قريب من لون بشرة الإنسان المائلة إلى الاصفرار، إلى جانب أنها غنية ومعاصرة ومتوفرة في القطاع حيث تُباع على شكل صفائح ورقية.
لم تقتصر في أعماله النحتية على مادة واحدة، ففي كل مرةٍ؛ يحاول أبو حشيش استخدام مادة جديدة ومميزة، ففي إحدى غرف البيت؛ خصصّ واحدة منها كورشة للعمل، حيث يسمح لفكره أن يسرح ويخرج عن إطار المألوف، فاستخدم الألمنيوم في النحت والجبس.
وبين أنه استطاع كفنانٍ مُتواجِد في غزة في ظل الظروف المفروضة عليه أن يتغلب على الظروف في نقص المادة الخام المُستخدمة من خلال صناعتها بنفسه، وما هو متواجدٌ ومتوفر في السوق المحلي.
وكان سبب توجهه إلى الفن التشكيلي وعلى وجه الخصوص النحت، لأنه يجد فيه ضالته في صدقه في التعبير عن المشاعر، ولكنه لا يرتكز على قاعدة فنية واحدة، بل يتعمد المزج بين المدارس ليخرج عن إطار التقليد، ويصل إلى أفكار جديدة وإبداعية.
وأوضح أبو حشيش أنه يعمل باستمرار على تطوير ذاته من خلال اطلاعه الدائم والتواصل مع فنانين ونحاتين لهم باع طويل في الفن، كما أنه يختار تسليط الضوء على المواضيع الاجتماعية والانسانية.
الطريق ليس معبدًا
ولا يوجد طريق ممهد، فهناك عدة عقبات كادت تقف في وجهه وتعوقه عن إكمال مسيرته الفنية لولا إصراره على أن تكون له بصمة خاصة من باب الوفاء للشهداء، فالحصار المفروض لم يترك مجالًا إلا يحدث له أثرًا على كل غزي، فالإغلاق المتواصل للمعبر منعه من تلبية دعوات للمشاركة في معارض خارجية.
وتابع أبو حشيش حديثه: "ولكن لم أقف مكتوف الأيدي إزاء ذلك، فقد تمكنت أعمالي أن يكون لها مكان على أرض المعارض الخارجية، من خلال إرسالها، وبعضها تم شراؤها لما لاقته من استحسان وإعجاب".
ونوه إلى أن الفنانين في غزة لا يحظون بأي دعم مادي، ولا يوجد لديهم أي حاضنة تعمل على التطوير، فالفنان مجبور ليطور من قدراته بنفسه، إلى جانب أن الفن قد لا يحظى على أولويات المواطن الغزي، مما يضطر إلى تسويق أعماله في الخارج، مما يتعين على الفنان أن يكون "جوكر" في عمل منحوتاته، وتنظيم المعارض، والتسويق للأعمال.
ومن المعارض المحلية التي شارك فيها، معرض "بقايا من الذاكرة"، ومعرض "كرامات" عرض فيها أعمالا نحتية مختلفة، ومشروع "إخلاء" الذي جسد فيه أطرافا بشرية مصنوعة من الجبس، و"نخوة فطرية" وهي أطراف مصنوعة من المعدن، وآخر "يوميات حياتنا في غزة" في الأردن.
ويطمح أبو حشيش رغم أنه يرى أن الطريق غير واضح أمامه، إلا أنه يفضل التحرر من أي عمل للتفرغ للفن، لتصبح له بصمته الخاصة بأعماله الفنية، ومعارض خاصة به.