في ظل حالة الانهزام والتراجع العربيين، وندرة وقلة المواقف المشرفة التي ترفع الرأس عاليًا سجلت الدكتورة ريما خلف موقفًا مشرفًا بامتياز، وحركت المياه الراكدة، مؤكدة أنه يمكن للإنسان _مهما كان موقعه_ أن يسجل تاريخ حياته بمداد من ذهب _إن هو أراد_ بقليل من الإرادة والعزيمة، والانتماء للمعاني الإنسانية والانتصار لها.
قدمت ريما خلف استقالتها مديرة تنفيذية لـ(إسكوا) التابعة للأمم المتحدة، لأن الأمين العام للأمم المتحدة طلب منها سحب تقريرها الخاص بإدانة كيان الاحتلال الصهيوني بالعنصرية، وكان بإمكانها ألا تقدم استقالتها، وترضى بما يرضى به الكثيرون في وقتنا الحالي من أصحاب فكر الهزيمة، والموضوع أصلًا ما كان ليلفت الانتباه، مع حالة التراجع العربية والهزائم والفتن والحروب الداخلية المكررة.
فضحية مدوية، إذ يمكن الاستنتاج أن استقالة خلف وثيقة دولية تبرهن على خضوع المنظمة الأممية لضغوط وتهديدات دول ذات سطوة ونفوذ، وحكومات قليلة الاكتراث بحقوق الإنسان، مثل أمريكا ودول أخرى تدور في فلكها.
خلف كشفت عن توجيه تعليمات إليها خلال مدة لا تتجاوز الشهرين، بسحب تقريرين أصدرتهما (إسكوا)، ليس لشوائبَ تعيب المضمون، بل بسبب الضغوطات السياسية لدول مسئولة عن انتهاكات صارخة لحقوق شعوب المنطقة.
ورد في رسالة الاستقالة لخلف عبارة: "وبدهي أن يهاجم المجرم من يدافعون عن قضايا ضحاياه، لكنني أجد نفسي غير قابلة للخضوع إلى هذه الضغوط".
في العبارة السابقة يتبين لكل عاقل ومنصف أن معدن ريما خلف ليس كبقية المعادن، فالمعدن الطيب لا يصدأ ولا تهزه السنين والحوادث، ولا يتأثر بالضغوط وشهوة المناصب، بل يؤثر التضحية على المهانة.
وتقول خلف في رسالة الاستقالة: "أؤمن بأن التمييز ضد أي إنسان على أساس الدين أو لون البشرة أو الجنس أو العرق أمر غير مقبول، ولا يمكن أن يصبح مقبولًا بفعل الحسابات السياسية أو سلطان القوة، وأؤمن أن قول كلمة الحق في وجه جائر متسلط ليس حقًّا للناس فحسب، بل هو واجب عليهم".
لاحظ هنا أن ما تقوله ريما ليس مجرد قول، بل أتبعت القول العمل، وهو ما تجلى باستقالتها، وكان لها ما أرادت من خسارة موقع ووظيفة يرنو لهما الكثيرون، ولكنها فضلت موقع ووظيفة حب الناس والشعب الفلسطيني، وكل حر وشريف بالعالم.
وتتابع خلف في رسالتها المؤثرة لكل صاحب ضمير: "لقد رأيتَ رأي العين كيف أن أهل هذه المنطقة يمرون بمرحلة من المعاناة والألم غير مسبوقة في تاريخهم الحديث، وإن طوفان الكوارث الذي يعمهم اليوم لم يكن إلا نتيجة لسيل من المظالم، تغاضت عنها، أو غطت عليها، أو ساهمت مساهمة معلنة فيها حكومات ذات هيمنة وتجبر، من المنطقة ومن خارجها".
وتتابع خلف بالحسرة والألم: "والحقيقة المؤلمة هي أن نظام فصل عنصري (أبارتايد) مازال قائمًا في القرن الحادي والعشرين، وهذا أمر لا يمكن قبوله في أي قانون، ولا أن يبرر أخلاقيًّا بأي شكل من الأشكال".
تأمل _أيها القارئ العزيز_ ما ختمت به خلف رسالتها، ولك أن تحكم عليها بما شئت من عبارات العز والكرامة: "أستقيل، ببساطة، لأنني أرى أن واجبي تجاه الشعوب التي نعمل لها، وتجاه الأمم المتحدة، وتجاه نفسي ألا أكتم شهادة حق على جريمة ماثلة تسبب كل هذه المعاناة لكل هذه الأعداد من البشر".