فلسطين أون لاين

في الثواني الأولى لـ"الهروب من الموت".. أجساد احترقت وأخرى نجت

شهود يروون لحظات مروعة من "حريق النصيرات"

...
الحريق ترك المحال والمنشآت مساحات قاحلة
غزة- يحيى اليعقوبي

يضم يده اليمنى الملتفة بالجبيرة إلى صدره، تعلو جبهته حروق بسيطة، يقف محمد أبو زيد أمام محله للمواد الغذائية بسعة حاصلين ومخزن وقد أصبحت فارغة من كل شيء سوى بقايا بضاعة محترقة متناثرة شاهدة على "يوم أسود" عاشه سوق مخيم النصيرات وسط قطاع غزة.

وصلت سيدة إلى المكان تواسيه: "الحمد لله على سلامتك"، بعدما كانت في المحل قبل الحريق بلحظات.

رغم صعوبة المشهد وما حل به، يرسم ابتسامة على وجهه محاولًا إظهار ملامح تعاكس الألم الذي يعيشه، لكن إن أخفته ملامحه فنبرة صوته ونظرات عينيه المكتنزة بالحسرة كانت غارقة في الحزن.

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة وخمسين دقيقة، يوم الخامس من مارس/ آذار الجاري، حينما نظر أبو زيد إلى ساعته، وبقربه يجلس ابنه مصطفى العائد من الروضة، وعمر بالصف الثالث الابتدائي، وعامل لديه يدعى "رجب"، الأطفال يلحون على والدهم من الجوع: "يلا نتغدى"، الأب يستعد لصلاة الظهر، صوت انفجار كبير يفسد كل هذه الترتيبات.

الناس حوله يتجمعون مستمعين للتفاصيل التي يرويها، يكمل: "قلت ربما الصوت من قصف إسرائيلي لأن المنطقة الزراعية خلفنا دائمًا تقصف، الحجارة تطايرت علينا، طمأنت أولادي: "تخافوش فش إشي"، في الخارج صوت الناس يفزعنا: "في غاز، غاز"، نظرت، رأيت غازًا وكأنه سحابة تمشي".

"بعدها بلحظات، حدث الانفجار الثاني، هز البقالة وتحطمت جدران المخزن وتكسر باب المحل الزجاجي، تبعه انفجاران ثالث ورابع في ثوان معدودات"، هكذا كان المشهد، "كان صوت الانفجارات قويا".

أبو زيد بعدما احترق هو وأطفاله: خرجت من كتلة نار كبيرة

لا يزال يروي التفاصيل التي كانت أشبه بحلم غافل واقعه: "صارت النار تدخل من باب المحل، حاولت الاحتماء مع أولادي بالمخزن، لكن النار جاءت من الأعلى إلينا، وضعت قميصًا على وجهي، وحملت ابني مصطفى، والعامل رجب أخذ ابني عمر، وخرجنا من بين النار وابتعدنا عن المكان".

ينظر إلى عامله المصاب بحروق تملأ وجهه، قائلًا: "إصابة ابني عمر مثل حروق رجب  من الدرجة الثانية"، يبدي رضاه بما حدث: "الحمد لله، خرجنا بالسلامة"، ينظر إلى محله الفارغ المحترق: "المال إحنا بنجيبه مش قصة، كنا قبل عايشين والآن بنعيش".

ما إن تصل إلى سوق النصيرات، إلى الجانب الأيمن تركت النار أثرها على مخبز "البنا" والمحال المجاورة له (بوظة حمادة، ومحل فادي، وصالون الحلاق سعود الخواص، ومختبر التحاليل، ومكتبة أبو الروس) وغيرها من المحال، ترى واجهة السوق محترقة يكسوها اللون الأسود، نكست كل الألوان هنا وبقي هذا اللون يروي مأساة عاشتها المنطقة.

تتجه إلى الخلف نحو معمل الباطون، ومنجرة أصبحت خالية تمامًا من أي شيء سوى ملصق وضع على مدخل بابه كشاهد يوضع على قبر ميت لتعريف الناس به، ملصق أصفر معلق على باب فضي مكتوب عليه: "شركة الرزي لتجارة الأخشاب ولوازم البناء"، كانت هذه الأماكن فريسة نار التهمت كل شيء حتى أصبحت قاحلة.

لوز: مشهد مؤلم أن ترى الناس تحترق أمامك والمحال تشتعل مرة واحدة

أنس لوز (صاحب صالون حلاقة) يتأمل الجدران السوداء، يتخيل مشهد الكارثة التي عاش تفاصيلها مرة أخرى، كانت نظرته مترعة بحزن لا وصف له، تراجع بخطواته وهو يقلب كفيه يترحم على الأموات مواسيًا نفسه.

مشهد الحريق لا يزال يحتل ذاكرته يلاحقه وكأنه أفاق من كابوس: "رأيت المحال تشتعل مرة واحدة، بعد أن انتشر الغاز وملأ المحال التجارية، الناس صارت تهرب وتركض، استنشقت رائحة الغاز، شعرت بالاختناق الشديد، لم أستطع التنفس.. انهال ردم من الأعلى وسقط على السوق، وكأنه انفجار صاروخ، بعد سماع الصوت اشتعلت خمسة محال مرة واحدة".

يرحل بصوته في حديثه لنا إلى لحظة ما قبل الكارثة، أما نظراته فما زالت تحدق بالمحال المحترقة، قائلًا: "كنت  أقف أمام الصالون على مدخل السوق بالاتجاه المقابل للمحال المحترقة، وفجأة رأيت سيدة على بعد أمتار مني تشتعل من كثرة الغاز التي تسربت إلى ملابسها، بسرعة دون تفكير أمسكت سجادة صلاة وأطفأت النار بها، وجاء رجل ونقلها إلى المستشفى".

التنهيدة هنا تروي حكايات من الألم: "مشهد مؤلم أن ترى أمامك الناس تحترق، رأيت ركابًا في سيارتين مرتا من أمام المحال المحترقة لحظة الانفجار، يشتعلون كذلك؛ ثم انفجرت أسطوانة الغاز في داخل أحدها، بسرعة جاء الناس وبدأنا إطفاء الحريق".

نيران تنبعث فجأة من خمسة محال تجارية، السيارات بدأت تشتعل، والمارة، السحاب الأسود يرتفع إلى السماء، لهيب النار يبعد كل شخص يحاول الاقتراب للإنقاذ، كلٌّ حدث في ثوان قبل وصول سيارات الدفاع المدني، استخدم الناس في هذا اللحظات أسطوانات إطفاء، وأواني، ودلاء، وزجاجات مياه، لكن كان انتشار النار كبيرًا.

يشع في عينيه بريق وصوت خافت حزين، يقلب المشاهد في داخله: "في أثناء الحريق والنار مشتعلة، خرج خالد أبو شاويش (عامل بمحل فادي للملابس النسائية) تشتعل النار من يديه وقدميه، كان يركض مسرعًا وهو يضرب قدميه بالأرض، ركضنا خلفه وهو يبتعد وأطفأنا النار ونقلناه إلى المشفى، والآن حالته خطرة".

موسى: هربت من نار تلاحقني وحينما عدت رأيت أجساد أصدقائي تشتعل

خلف السوق، يجلس الشاب صالح موسى على حجر في المكان نفسه الذي انفجر فيه "صهريج الغاز"، لا يصدق أن المكان الواسع الذي كان يعج بالعمال والآلات ومعامل "الباطون" وورشة النجارة أصبحت ساحة فارغة من أي شيء، إلا بقايا حديد متآكل، وحجارة وغرف وسيارات محترقة، وأكوام من الحصى وآلات خلط الباطون.

بملامح يكسوها الحزن، وصوت خافت، وعينين تعكسان ما بهما من ألم، يعيش المشهد مرة أخرى عائدا لما قبل الحريق، وهو يشير بيده إلى مكان الصهريج: "كنت أقف هنا، خلفي الصهريج الذي يبلغ طوله سبعة أمتار، فجأة سمعت صوت انفجار ضخم، توقعت أنه قصف، ارتطم حجر بكتفي، شعرت بالبرد، هربت باتجاه الغرب أصرخ على باقي العمال: "ما حدا يولع نار"، استرقت نظرة إلى الخلف، رأيت بياض الغاز يتحول إلى كتلة نار كبيرة، فركضت أسرع وكانت النار تلاحقني".

"انبطحت أرضًا تحت شجرة زيتون ومرت كتلة اللهب إلى آخر حدودها من فوقي، ثم عدت فوجدت جثثًا محترقة، جارنا في المعمل المجاور بين الحياة والموت وابنه مات حرقًا (عدي أبو يوسف)، رأيت زميلي العامل سعود مخيمر خرج محترقًا يتقلب بالرمل محاولًا إطفاء النيران، وصديقي الآخر رامي النقلة يحترق، لكن استطعنا السيطرة عليه"، كان صعبًا عليه إعادة سرد تفاصيل يحاول تجاهلها ونسيانها.

يجلس على الحجر ذاته، يتأمل الكارثة حوله، مسندًا رأسه إلى يديه، لا يصدق أن هذا المكان الذي لم تهدأ الحركة فيه بات ساكنًا لا صوت فيه سوى ألم القلوب التي تئن جروحها، ولا رائحة هنا للسعادة أمام رائحة الموت التي تركت بصماتها في كل مكان هنا.

حضر حديثنا العامل أسامة النباهين، ملامحه الداكنة تعكس حجم المشقة التي يعيشها،  يتحسر هذا العامل البسيط على حصانه الذي مات حرقًا، يقلب كفيه يبكي حسرته بلهجة بدوية: "أنا انتكبت، بعد ما راحت فرستي (..) هي رزقتي إذا اشتغلت باكل، واذا ما اشتغلت ما باكل".

"احترقت أمامي لكن لم أستطع إنقاذها لأنني ذهبت إلى المشاركة في إنقاذ أرواح زملائنا المحترقين"، لكل واحد هنا هموم خاصة به، كان أبسطها هم هذا العامل.

أبو عربان: كل شيء حدث في ثوانٍ وكأنه كابوس

إلى الأمام في الداخل، يقف رجل وحده في ساحة فارغة تبلغ دونمًا ونصف دونم، ويدعى ناصر أبو عربان، صاحب الأرض التي استأجرها مالك منجرة "الرزي"، وهو مالك المحال التجارية المطلة على شارع السوق، عاش تفاصيل أخرى: "كنت في البداية أقف عند مفرق السوق لحظة الانفجار".

يشير إلى باب فضي بين المحال التجارية يدخل إلى هذه الساحة، يقول: "دخلت منه إلى هنا، وحدث الحريق، رأيت ابن صاحب المنجرة "إبراهيم الرزي" يخرج مشتعلًا، انبهرت من هول ما رأيت، الحلاق سعيد الخواص خرج مشتعلًا كذلك، كل شيء حدث في ثوان وكأنه كابوس، أطفأ الناس الحلاق سعيد، وأسندوه إلى سيارة من نوع "سوبارو" وفجأة انفجرت بسبب أسطوانة غاز كانت بداخلها، واحترق للمرة الثانية، حاول الشباب إنقاذه وسحبه لكن كانت حالته خطرة، وأعلن عن وفاته".

ينظر إلى ساحة المنجرة الخالية، يقول بصوت امتزج بالمواساة: "صاحب المنجرة قبل أيام أنزل بضاعة جديدة من كل أنواع الأخشاب الفاخرة والمميزة، وسيارة حديثة، رغم أنه لديه كل إجراءات السلامة من أسطوانات إطفاء، ورشاشات حريق معلقة في السقف، وبئر مياه، احتياطًا من حدوث حريق من الداخل، لكن الحريق جاءه من الخارج؛ فلم تعمل المنظومة، وخسر كل شيء، وابنه الآن في العناية المركزة".

يشير بيده إلى الشمال من السوق لمحطة كهرباء تغذي السوق، وإلى البراميل السوداء الممتلئة بالوقود، إلى مكان صهاريج مخبز البنا، وأسطوانات الغاز، معلقًا بألم: "كنا نعيش وسط قنبلة موقوتة".

٢٠٢٠٠٣٠٧_١٠٣١٠٨.jpg
٢٠٢٠٠٣٠٧_١٠٥٥٣٩.jpg
٢٠٢٠٠٣٠٧_١٠٤٧١٥.jpg
٢٠٢٠٠٣٠٧_١١٤٠٠٣.jpg
٢٠٢٠٠٣٠٧_١١٣٩٣٩.jpg
٢٠٢٠٠٣٠٧_١١٣٩٥٥.jpg