قبل يومين كانت آخر نبضاتها في هذه الحياة، دارت عيناها على أبنائها في نظرة وداع أخيرة، ولمّا لم تجد عبد الرازق ذرفت دمعة ساخنة، رأته وقد رسم شبك الزيارة مربعاته على وجهه، ثم رأته وقد غيّب أنفاسه عنها لوح زجاجي بارد لا يفقه لغة القلوب، ومرّ شريط الذكريات عندما كانت تحتضنه بين حبسة وأخرى، يُغيّبونه في غياهب سجونهم السنة تلو الأخرى، وقد اعتادت أن تقتات من أمل إفراج ولقاء قادم، اليوم تغيب هي دون أن تكحّل عينيها برؤيته ويتلاشى أمل اللقاء في هذه الحياة، عندما يخرج عبد الرازق هذه المرة لن يجد روحه الكبيرة، يعود الغصن فلا يجد الشجرة التي اعتاد أن يأتي إلى حضنها بعد سفره الشاق الطويل.
استقرّ مقامها في مخيم الجلزون بعد عملية تطهير عرقي وتهجير قسري لشعب قام بها ألدّ أعداء البشرية، كانت جريمة ضربت ريعان حياتها بقسوة بالغة، ابنة مدينة اللد الوادعة في حضن الساحل الفلسطيني، التي يأتيها رزقها رغدا من كلّ مكان، عاشت طفولة هانئة طيبة في ربوع مدينة لا ينقصها شيء، ترتع وتلعب وتنعم بدلال ورغد، ومدينة اللد بالذات تمتاز صغيراتها بدلالهن الخاص، حياة مرفّهة تختلف كثيرا عن حياة القرى وشظف فلاحة الأرض فتنشأ وتترعرع البنت في وسط حفاوة جميلة وسعادة لا ينافسهن فيهما أحد.
فجأة وجدت نفسها في مهب ريح حياة البؤس والشقاء، وجدت نفسها مطرودة من مدينتها الجميلة إلى حيث حياة الخيام التي تلعب بها عواصف الشتاء ويذيقها الصيف لهيبه الحارّ، حياة بلا مأوى ولا مطعم ولا رعاية الا ما يبقيهم على قيد الحياة، وفوق كل هذا عصا الاحتلال التي راحت تطاردهم حتى في هذه المخيمات. ومن لا شيء استطاعت أن تدبّر الأمر وتصنع كلّ شيء لضمان استمرارية الحياة وإثبات الصمود والتحدي، وأن على هذه الأرض من هو أحق من المحتلّ بالعيش عليها. نجحت في تعمير بيت والاستمرار في تزويد الحياة الفلسطينية بأبناء نوعيين في عطائهم وحفظهم لرسالة الوطن الذبيح. استثمرت في التعليم وثابرت حتى أخرجت من رحم معاناتها الكفاءات العلمية المميزة.
وكان من أهم هذه الكفاءات ما جعلت منه وقودا لحركة النضال الفلسطينية، ابنها عبد الرازق الذي كان أسير فلسطين، الذي أغاظ المحتل مرارا ودفع الثمن باهظا من عمره حيث أخذت السجون أكثر من شطره، انقض الاحتلال على عمره فقطّعه بين سجن وآخر، كانت اعتقالاته الادارية من أطول السنين حبسا، حيث بلغت التجديدات الإدارية في أحيانا خمس سنوات، وهو الآن في اعتقال تناوشته فيه أساليب تعذيبهم السادية في تحقيق عسكري مريع لم يراعوا فيه سنه ولا مرضه ولا أي حق من حقوق الإنسان التي ما فتئوا يتشدقون بها.
أمه رحمها الله كانت دائما السند والروح العالية التي ترفرف روحه في سمائها، لم تتوان لحظة في تجرّع ويلات السفر إلى سجونهم البعيدة، نذرت نفسها لخيار ولدها المقاوم، تبادلت معه الفخر والاعتزاز بحياة النضال وسارت في هذا الدرب دون كلل أو ملل، كانت تأتيه منهكة قد أعياها السفر الطويل وحواجزهم اللعينة وتفتيشاتهم المذلة وإجراءاتهم المقيتة، ترفع رأسها به شامخة، فلا تبدي له إلا قوة روحها وشموخ عزيمتها. تتعالى على الجراح وتعلو بسمتها الجميلة فوق كل الآلام.
لقد قضت نحبها شهيدة للحرية وشاهدة على جريمة الاحتلال الفاشية، صابرة منافحة مناضلة، تنشد نشيد الحرية، وتعلن أن العودة قادمة إلى حيث اللد المدينة المحررة وعودة الحقوق لأصحابها، تعلن أن فلسطين هي فلسطين واللد وعكا وحيفا ويافا وعسقلان وبئر السبع تماما مع رام الله والخليل وجنين نابلس، هي سواء مدن فلسطينية خالصة مخلصة من هذا العدو المارق الذي لا جذور ولا مستقبل له في بلادنا أبدا.