تبين آخر نتائج الانتخابات في الكيان الإسرائيلي إلى استمراره في سياسة دولة المستوطنات، المتجهة للاستيلاء على مزيد من أراضي الضفة، وتقسيم مدنها إلى كانتونات معزولة، وصولا إلى إنهاء الكيانية السياسية للفلسطينيين في الضفة، وربما التخطيط لطرد سكانها إلى دولة الوطن البديل، وكانت السلطة تراهن من قبل على فوز غانتس؛ على أمل أن يساهم في العودة إلى طاولة المفاوضات، إلا أنها أُصيبت بخيبة أمل كبيرة، عبّر عنها أحد رموز مسيرة السلطة التفاوضية السيد صائب عريقات، والذي قال تعقيبًا على فوز اليمين: "لقد فاز الاستيطان والضم والأبارتهايد".
ويدفع هذا الاعتراف الذي جاء على لسان عريقات، وغيره من قيادات السلطة ورموزها، إلى التساؤل عن الخيارات الممكنة للسلطة؛ لإخراج الفلسطينيين جميعًا من هذا المأزق، الذي قاد قضيتهم إلى حالة غير مسبوقة من الإخفاق، بسبب السياسات العبثية للسلطة وقياداتها، التي مازالت ترى مسيرتها الحالية الخيار الوحيد الممكن.
ويتمثل ذلك الخيار في إبقاء الواقع الحالي كما هو، أي مواصلة التنسيق الأمني والاعتقال السياسي، والتغاضي عن إجراءات الاحتلال على الأرض، وإلهاء الناس بالرفض الإعلامي لمخططات الكيان الصهيوني ومستوطنيه، على أمل أن يتغير شيء ما في سياسته، سواء بتغييرات داخلية، أو بتغييرات في الإدارة الأمريكية، أو بضغوط دولية من قبل الاتحاد الأوروبي مثلًا، وفي الحقيقة لا يمكن لهذا الخيار أن يقود إلى أي نتيجة، فلن تتغير سياسة الاحتلال في الضفة إلا عبر ضغط مقاوم يتسبب في صداع عنيف له، عندئذ سيبادر المستوطنون بالرحيل، ولن يخاطروا كثيرا بحياتهم، وحتى لو فاز غانتس فلن يكون ملاكا للسلام، ولن يستطيع مواجهة قوة اليمين المتصاعد، كما أنه لن تنجح أي إدارة أمريكية في الضغط على الاحتلال -حتى لو كانت الأكثر تأييدًا للسلام- ما لم ينشأ على الأرض ضغط حقيقي مقاوم يقود الأمور للانفجار، وهو ما يبدو غير ممكن في ظل سياسة السلطة الاستسلامية، وفي ظل العجز العربي الحالي، وهو ما ينطبق كذلك على أي قوة دولية أخرى تتطلع السلطة إلى مساندتها في مواجهة الاستيطان المتغول.
ومخاطر هذا الخيار من وجهة نظر السلطة أنه يمثل ضغطًا كبيرا على الشعب الفلسطيني، الذي قد ينفجر في أي لحظة في وجه الاحتلال، وربما السلطة، في ظل المس المباشر بكل مقدساته ومصالحه، فقد بات الاحتلال يعتدي على بيته، وأرضه، وحرية تناقلاته، ويعتقل أبناءه، ويصادر أمواله، ولن يطول في تقدير كثير من المراقبين صبر الجماهير الفلسطينية على هذه الجرائم المتصاعدة، في ظل غطرسة غير مسبوقة، ورغم ذلك إلا أن هذا هو الخيار الذي ستختاره السلطة وتصر عليه، وفق استقرائنا لمسيرتها طوال الفترة السابقة، وستتغلب على الرفض الشعبي المحتمل من خلال تشديد القبضة الأمنية، ومحاولة إلهاء المواطنين بقضايا فرعية، وادعاء البطولات العنترية عبر التصريحات الإعلامية، وتضخيم أثر اللجوء للمؤسسات الدولية في وقف جرائم الاحتلال، لمنح الناس الأمل الكاذب بإمكانية حدوث تغيير جوهري قريب.
والسلطة تطرح خيارها هذا على أنه الخيار الوحيد الممكن وترفض الحديث عن إمكانية اللجوء لخيارات أخرى على اعتبار أنها غير ممكنة، لكن الحقيقة أن هنالك خيارات أخرى منها:
أولًا: خيار المقاومة السلبية أي بمعنى ألّا تساند السلطة أي عمل مقاوم، أو تشجع عليه بشكل مباشر، وإنما تقرر وقف التنسيق الأمني، ووقف الاعتقال السياسي، وترك الشعب الفلسطيني يحل أزمته بنفسه، وتقف على الحياد تمامًا، فإذا ما اقتحم مثلا مستوطن الأراضي الواقعة تحت سيطرتها لا تقوم بتسليمه للاحتلال، وإنما تترك للجماهير حرية التصرف معه، ولكن السلطة قد لا تنجح في هذا الخيار؛ لأن الاحتلال حوّل التنسيق الأمني من فعل سياسي يُمارس على مستوى قيادات الأجهزة، وبشكل رسمي، إلى تنسيق ميداني يمارس على مستوى الضباط صغار الرتب، ومع أن السلطة قد لا تستطيع منع خيار التنسيق الأمني، إلا أن بإمكانها رفع الغطاء السياسي عنه على الأقل، ما سيشجع المواطنين الفلسطينيين على مزيد من الفعل المقاوم، وقد يبدو هذا الخيار من أفضل الخيارات وأقلها تكلفة في ظل عجز السلطة الحالي، ولكنها تفتقد الشجاعة لتطبيقها في ظل خوفها من أن تقرر حكومة الاحتلال استبدال قيادتها الحالية بقيادة أخرى أكثر تنازلًا.
أما الخيار الثاني فهو أن تعلن السلطة الثورة على الاحتلال، وتصدر أمرًا مباشرًا لأفرادها بمقاومة الاحتلال، ومساندة أي قوة تريد مقاومته، والسماح لفتح وأبنائها على وجه الخصوص بالانخراط في فعل مقاوم شعبيًا وعسكريا، وقد يقود هذا إلى احتلال علني ومباشر من قبل الاحتلال للضفة، إلا أن التكلفة التي سيدفعها ستكون كبيرة جدًا، ويعد ذلك أفضل الخيارات التي يمكن أن تقوم بها السلطة لو كانت سلطة وطنية، ويقودها أبطال، يسعون لأن يخلدهم التاريخ كرموز للشعب الفلسطيني، لكنه يظل خيارًا خياليا من وجهة نظر السلطة، ولا يمكن حتى مجرد التفكير به.
ويظل الخيار الثالث أخف الخيارات من ناحية الضرر برموز السلطة وقياداتها لو كان لديها الاستعداد للتضحية بمصالحها، وهو خيار الإعلان عن حل السلطة، وتسليم الأمانة للشعب ليشكل لجانا تدير جوانب حياته المختلفة، لينخرط في مقاومة شاملة، لا تنتهي إلا بإعلان الاحتلال رحيله عن الضفة الغربية بشكل كامل، بما فيها مدينة القدس، مع ربطها بقطاع غزة، ورفع الحصار عن غزة والضفة، والسماح لهما بتشكيل دولة حقيقية، لتكون خطوة انتقالية نحو إنهاء الاحتلال، وتحرير فلسطين، لكن السلطة لا يمكن أن تفكر في هذا الخيار في ظل ما نراه من تصرفاتها، وما نسمعه من تصريحاتها، وتظل الكرة في ملعب الشعب الفلسطيني، المطالب بتحرير أرضه عبر فعل مقاوم، يتجاوز كل المستسلمين والعاجزين؛ ليصنع مستقبله بنفسه.