تشكل الخلافات "العربية–العربية" أو مع دول الجوار، منفذًا لدولة الاحتلال الإسرائيلي، تستغله في عملية تطبيع معها عبر مسارات عمل عدة لها أهداف ومطامع إستراتيجية في السيطرة على مقدرات الدول العربية.
وباستثناء مصر والأردن، لا تقيم أي دولة عربية علاقات دبلوماسية علنية مع (إسرائيل)، لكن في الفترة الأخيرة ازدادت وتيرة التطبيع من خلال مشاركات إسرائيلية في أنشطة رياضية وثقافية وفنية تقيمها دول عربية لا سيما في الخليج العربي.
وكشف رئيس حكومة الاحتلال منتهي الولاية، بنيامين نتنياهو، الشهر الجاري، أن (إسرائيل) تقيم علاقات سرية مع العديد من الدول العربية والإسلامية، وأن ثلاث دول فقط هي التي لا تقيم علاقات معها.
وقال نتنياهو في كلمة له بمؤتمر لرؤساء المنظمات اليهودية الأميركية في غربي القدس: "أطوّر علاقات مع دول عربية وإسلامية، وأستطيع أن أقول لكم إن دولة واحدة أو دولتين أو ثلاثا منها فقط لا تقيم معنا علاقات تتعزز باستمرار".
وأكد أن ما يقوله ليس إلا 10% فقط مما يحدث من علاقات سرية تجمع (إسرائيل) بدول عربية في المنطقة.
ووجه نتنياهو شكره لسفراء عمان والبحرين والإمارات لحضورهم في البيت الأبيض خلال إلقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تفاصيل صفقته مع نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية، في 28 يناير/كانون الثاني الماضي.
وتراهن (إسرائيل) وأمريكا –وفق مراقبين- على "ليونة" سياسات دول خليجية مع طرح "خيار الحماية الأمريكية" مقابل دعم صفقة ترامب-نتنياهو وتوجيه العداء العربي لطرف آخر غير (إسرائيل)، في محاولة لجعل الأخيرة "عضوا طبيعيا" في المنطقة ومركزا اقتصاديا للدول العربية.
وتعمل سلطات الاحتلال على تصوير الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أنها "عدو" للدول العربية، بدلا من كون (إسرائيل) هي العدو للأمة العربية والإسلامية.
وقد سربت معلومات عدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 عن التطبيع الإسرائيلي المقبل مع دول خليجية، من خلال الاتفاق على أنه "لا حرب بين (إسرائيل) ودول خليجية" بموجب مبادرة وزير خارجية الاحتلال، يسرائيل كاتس، طرحت على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت في سبتمبر/أيلول 2019 التي ترمي إلى تطبيع رسمي للعلاقات، وسط ترحيب ودعم أمريكي، وتشمل المبادرة "تعزيز التعاون الاقتصادي" حيث وصفت القناة 12 في تلفزيون الاحتلال هذه المبادرة بأنها "أقرب فرصة نحو تطبيع كامل للعلاقات، ما دامت لم تحل القضية الفلسطينية".
وفي إفريقيا ورغم أن نصف الدول العربية تقريبا موجود في القارة السمراء، وعلى الرغم من عمق العلاقات الفلسطينية مع دول القارة تاريخيا، عملت (إسرائيل) على جذب هذه الدول من خلال مداخل اقتصادية وأمنية وتنموية.
هنا تلعب (إسرائيل) على عوامل التناقض بين الجزائر والمغرب للولوج إلى القارة الإفريقية باستثمار الخلافات القائمة بين الدول العربية مقابل التطبيع، وكذلك استغلت خلافات السودان مع محيطها للتطبيع ووضع موطئ قدم لها على ساحل البحر الأحمر، والتدخل في دول مجرى نهر النيل من أجل الضغط على مصر.
وأعلن مكتب نتنياهو في الثالث من فبراير/شباط 2020 أنه التقى رئيس المجلس السيادي في السودان عبد الفتاح البرهان، في العاصمة الأوغندية عنتيبي، وأنهما اتفقا على بدء الحوار من أجل "تطبيع العلاقات"، في حين خرجت احتجاجات شعبية في مدن سودانية عديدة تنديداً بالخطوة.
ودار حديث عن وجود "صفقة" قريبة بين الرباط و(تل أبيب)، تقوم على مقايضة اعتراف أمريكي بمغربية الصحراء، باعتراف مغربي بشرعية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والسبب هو أن ما قاله وزير الخارجية المغربي بوريطة بأنه "ينبغي ألا نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم" وأن القضية الأولى للمغرب هي الصحراء وليست القضية الفلسطينية، فتَحَ الباب واسعا أمام التأويلات.
وعزز ذلك ما كشفته مصادر إعلامية عبرية عن أن نتنياهو قايض المغرب من خلال دعمه للقضية المغربية في الصحراء الغربية المتنازع عليها، مقابل تحسين الرباط علاقاتها مع (إسرائيل).
وقالت قناة "13" في تلفزيون الاحتلال، في تقرير لها، في فبراير/ شباط 2020، إن نتنياهو اقترح ترتيب اتفاق ثلاثي من خلاله تعترف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على أراضي الصحراء الغربية المتنازع عليها، في مقابل قيام المغرب بخطوات لتطبيع العلاقات مع (إسرائيل).
الخلاف السياسي بين الاتحاد الإفريقي والمغرب حول الصحراء الغربية أبعد المغرب عن عمقها الإفريقي فترةً ليست بالقصيرة، وستستغل (إسرائيل) ذلك؛ وفق مراقبين.
"خلافات عربية"
المنسق العام للحملة الأهلية لنصرة فلسطين وقضايا الأمة المفكر اللبناني معن بشور، يقول: "دون شك أن الاحتلال الإسرائيلي وداعميه قد استغلوا إلى أبعد حد الصراعات العربية- العربية، والصراعات العربية – الإسلامية لتحقيق العديد من مخططاتهم العدوانية والإجرامية، بل ساهموا في إذكاء هذه الصراعات ليس بين الدول العربية والإسلامية فحسب، بل داخل كل دولة عبر إثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية".
ويضيف بشور لصحيفة "فلسطين": لكن التسلل إلى إفريقيا وآسيا وإحداث التطبيع مع العديد من حكوماتها ودولها إنما نجح بعد سلوك بعض الحكومات العربية نهج الاتفاقات المنفردة مع (إسرائيل) كمعاهدات كامب ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو حيث كانت حجة تلك الدول التي قاطع معظمها (إسرائيل) في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أن لا مبرر لاستمرار قطع العلاقات مع (إسرائيل) ما دام بعض العرب عموماً وبعض الفلسطينيين خصوصاً –في إشارة إلى السلطة برام الله- قد أقاموا علاقات معها.
ويتابع بشور: "لم يعد خافياً على أحد كيف تستغل (إسرائيل) كل تناقض بين الدول العربية، أو بين بعضها ودول الجوار، من أجل أن يفرض على حكوماتها سياسات التطبيع معه، فبحجة مواجهة ما يسمى الخطر الإيراني مثلاً، تعمدت واشنطن ومن ورائها (تل أبيب) دعوة حكومات الخليج إلى قيام تحالف عسكري مع الولايات المتحدة، وتطبيع مع (إسرائيل)".
وبحجة الانتصار للمغرب في خلافه مع الجزائر حول قضية الصحراء، تحرص واشنطن على تقديم كل الإغراءات للحملة الغربية في دعمها بقضية الصحراء مقابل القبول بالتطبيع مع (إسرائيل)، وهي إغراءات ما زال المغرب يرفضها حتى الآن؛ وفق بشور.
أما السودان، كما يتابع، فقد تم استغلال الصراعات الداخلية متعددة المظاهر والأبعاد، بما فيها انفصال جنوب السودان، للضغط على حكومة الخرطوم للتطبيع من أجل رفع الحصار المفروض عليها، والانتصار لها في خلافاتها مع حكومات مجاورة، بل واستغلال الخلافات بين دول مجرى نهر النيل، لا سيّما بين إثيوبيا ومصر، لاستخدام نهر النيل، شريان الحياة لمصر، كأسلوب ضغط على الحكومة المصرية للبقاء "رهينة" اتفاقات كامب ديفيد وسياسات التفاهم مع (إسرائيل)؛ وفق تعبيره.
أهداف متعددة
وعن أهداف هذا التحرك في التطبيع مع الدول العربية باستغلال الخلافات، يقول: "رغم كل الدعم لـ(إسرائيل) من أمريكا ودول أوروبية، فإن الأولى تعيش أزمة وجودية عميقة تنعكس في المجالات الأمنية، ومجالات تزايد الهجرة المضادة، وتزايد العزلة الدولية العالمية التي تعيشها، ومجالات الاهتزاز العقائدي"؛ وفق وصفه.
وهذا ما يدفع بقادة الاحتلال إلى استخدام ورقة التطبيع مع بعض الدول العربية لإقناع الإسرائيليين بأن المبادرة ما تزال بيدها وتصوير (إسرائيل) على أنها قوية رغم كل ما تواجهه من مقاومة متنامية في غزة وفي شمال فلسطين المحتلة حيث جنوب لبنان، وفي القلب حيث الانتفاضة في القدس والضفة الغربية وتفاعلها في أراضي فلسطين المحتلة سنة 1948؛ والحديث لا يزال للمفكر اللبناني.
ويرى أن قادة الاحتلال يعتقدون أن استدراج بعض الحكومات إلى التطبيع إنما يدفع العلاقات العربية – العربية إلى التأزم بين الدول المطبعة والدول الرافضة للتطبيع فيزداد الانقسام العربي احتداما، والصراعات بين الحكومات والشعوب تأزماً لأن موقف الشعوب رافض بشدة للتطبيع ولكل علاقة مع الاحتلال.
من هنا فإن الطريق الأسلم والأفضل لمواجهة التطبيع، هو في تنقية العلاقات بين الدول العربية وبين بعضهم ودول الجوار، وداخل كل دولة على طريق التضامن والتعاون والتكامل؛ والكلام لبشور.
"العصا والجزرة"
من ناحيتها ترى الباحثة المصرية في الشؤون الإفريقية الإسرائيلية د. هبة البشبيشي أن لدى (إسرائيل) منهجية في التعامل مع الدول العربية بأنها "لا تتدخل" في الخلاف السياسي القائم بين بعض الدول، بل تطرح نفسها بديلا عن الدول الأخرى مستعملة سياسة "العصا والجزرة".
وتقول البشبيشي في اتصال هاتفي مع صحيفة "فلسطين" إن (إسرائيل) تعطي "هالة إعلامية" أكبر من حجمها مستغلة مداخل مختلفة، كالصراع بين السودان ودولة جنوب السودان، وتطرح نفسها "دولة" إقليمية كبيرة مزعومة، مبينة أن (إسرائيل) هي أكبر المستفيدين من هذه العلاقات، فقد استفادت من تطبيع العلاقات مع السودان باستغلال المجال الجوي السوداني في الوصول إلى قارة أمريكا الجنوبية بطريق مختصر، وهذا كله مقابل مزايا قليلة تمنحها لهذه الدول لا تقارن بحجم ما تحصل عليه منها.
وتتابع: "الهدف من هذا التحرك استكمال التطويق الذي يقوم به الاحتلال لعدد من الدول العربية ومصر، بأن توجد في دول لم يكن بينها علاقة صريحة، خاصة أن هناك عدوانا إسرائيليا حدث على السودان عام 1998م، واستغلال ضعف السودان كدولة هشة حاليا ليس لها أصدقاء ترتكز إليهم بالمعنى الحقيقي، ولا يوجد دعم كافٍ لهم، ولا رؤية واضحة بعد انهيار حكومة عمر البشير، وهي بحاجة لشركات في الزراعة والتعدين، فتستغل (إسرائيل) هذه الفجوة في وضع يدها في الاقتصاد السوداني، وتحقيق مصالحها".
وتعتقد أن سلطات الاحتلال حققت "نجاحات" في السودان، وفي المغرب مستغلة الخلافات المغربية الجزائرية، مردفة: "إن السياسة الخارجية للاحتلال تعمل على مبدأ أن المصلحة هي الحاكم الأول والأخير".
أما في الخليج العربي فتقول البشبيشي: إن (إسرائيل) أقامت علاقات علنية مع بعض تلك الدول كسلطنة عمان، لإظهار أنها ليست العدو، ومحاولة إحداث نوع من "التعاطف" مع العدوان الذي تشنه في سوريا الذي ترفضه الشعوب العربية، في حين تصمت الدول المطبعة أمام اعتداءات الاحتلال الحالية.

