فلسطين أون لاين

من علامة واحدة تعرف عليها في ثلاجات الموتى

في الاستغاثة الأخيرة.. لهيب النار حال بين "إياد" و"سلوى"

...
حادثة النصيرات (أرشيف)
غزة - يحيى اليعقوبي

صوت انفجار كبير يهز مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يهتز معه قلب إياد حمدان ويفتعل ضجيج بداخله، بعد أن ارتج بيته الذي لا يبعد سوى 200 متر عن منطقة السوق بالمخيم، يعلق وهو يحدث ابنه: "شكله الاحتلال خلص الانتخابات وفضي عشان يشتغل فينا"، وافق الابن أباه: "هيك شكله".

حينما تتأمل هذه القصص، عليك أن تترك قلبك جانبًا حتى لا تبكي وتذرف دمعًا على حال تلك العائلات التي أصبحت مشردة بالأحزان؛ وإن خانتك دموعك فدعها تنساب على وجنتيك، وتهرب بصمت لأن صوت عذابات الألم ستسمعها من صوت جروح قلوبهم التي لن تلتئم.

النداء الأخير

بعد ثلاث دقائق على الحوار السابق.. هاتف "إياد" يرن"؛ بعد أن ارتج في قلبه قبل يده، على عجل رد على المكالمة فالمتصل زوجته: "الحق في نار حولينا وأنا في محل فادي"، صوتها كان يحمل نداء استغاثة، فهم زوجها كل تفاصيله، من نبرة صوتها الخائفة والمرتجفة، من الصراخ الصادر من محيطها، كانت تعلم أنه سيسمع صوت خوفها ودقات قلبها، لم يستفسر كثيرًا، فلا وقت هنا لذلك، على الفور أمرها بخوف: "اطلعي من المكان بأي وسيلة".

حين المكالمة، كانت عقارب الساعة تحط رحالها عند الواحدة ظهرا، كبركان يغلي من القلق كان قلب إياد، بسرعة خرج من البيت يركض حتى طوى المسافة بين بيته والمحل الذي ذكرته له زوجته في ثوانٍ معدودات، يسابق الزمن قبل أن تصل النار إلى شريكة روحه، لم يأبه بمصيره، اقتحم النيران التي لم تكن قد التهمت كل شيء، من حوله النيران بدأت ترتفع للأعلى، تأكل كل شيء أمامها لا ترحم أحدًا، كان مشهدًا لم يرَه إياد من قبل، وصل إلى داخل المحل فلم يجد أحدًا.

فأطفأت نيران الخوف المشتعلة بداخله قليلًا قبل أن يخبره أحدهم أنه كان داخل محل صرافة، من أمام بيت العزاء بمخيم النصيرات، كانت ملامح إياد حمدان وهو يروي التفاصيل لصحيفة "فلسطين" ترسم لوحة أخرى من الألم، تتجمع الدموع حول عينيه، لكنه لم يأذن لها بالسريان على خده، محاولًا وضع التفاصيل الأخيرة في أصعب مشهد عاشه وسيبقى يعيشه كل يوم، قائلًا: "دخلت محل فادي (أحد المحال في السوق)، يبلغ طوله قرابة 20 مترًا، النار مشتعلة في أول ثمانية أمتار، أنادي على الجميع أريد إطفاء النار بأي وسيلة حتى اشتريت زجاجات مشروبات غازية (كوكا كولا) وبدأت برشها".

في هذا المكان، اتصل صوت نداء "سلوى" بقلب زوجها "إياد" الذي كان بداخل فرن مشتعل، ينادي عليها، لكن وهج الحرارة الكبير لم يسمح لصوته بالوصول إلى الداخل، أعاد النداء مرات ومرات، لكن دون استجابة، تقلد دور رجل إطفاء يحاول إطفاء الحريق بالزجاجات الغازية في اللحظات الأولى لنشوب النار، متجاهلًا صوت أحدهم شده من الخلف: "فش حدا جو كلهم طلعناهم"، لكن حدسه الداخلي، أحاسيسه، قلبه، كل شيء كان يقول له إن زوجته خلف النيران.

بين النيران

صعبة تلك المواقف التي يروي فيها المرء مشهدًا عاشه ويحاول تناسيه، فالنار التي انطفأت هناك واخمدت ما زالت مشتعلة في قلبه، يحرر الكلمات مرة أخرى راحلًا بصوته لتلك اللحظات المحملة بالألم: "نجحت بإطفاء أربعة أمتار بالزجاجات الغازية، لكنها لم تطفئ إلا اللهب وبقيت الحرارة، وكلما أتقدم كانت النار تشتعل خلفي، حتى رأيت أشخاصًا يحملوني إلى خارج المحل، البعض أقسم أمامي أنهم: رأوا زوجتي وابنتي -حينما أخبرتهم بالمواصفات- يخرجون إلى المستشفى وأنهما بخير، فأرسلت ابني لمستشفى شهداء الأقصى بدير البلح".

لم يقتنع إياد بكلام الشهود، يقف أمام محل فادي على بعد عشرات الأمتار، يشاهد سحابة النار الأسود تعلو فتعلو أكثر، يتواصل وفود سيارات الإسعاف والإطفاء، يخوضون معركة أخرى مع سحابة حمراء وصلت عنان السماء، مثل جبل بركان انفجر، لكن نظره ظل منصبًّا إلى المحل، إلى المكان الذي تحترق زوجته فيه أمامه دون أن يفعل شيئًا، حتى بدأت الأنباء المتواردة تتحدث أن هناك سبعة أشخاص بداخل محل "فادي"، حينها وضع النقطة الأخيرة على صراعه الداخلي وأيقن أن زوجته لم تستطِع الخروج.

تركت الدموع أثرها على وجنتيه، يواصل المعزون القدوم لمواساته، مجموعة أكاديميين قاطعوا حديثه قبل المغادرة، ملقين على قلبه عبارات المواساة والصبر، لكن على كتف آخر شخص فيهم سكب إياد -الذي يعيش جرحًا مركبًا بعدما فقد زوجته وابنته- أحزانه، وليته يستطيع أن يحمل شيئًا من هذه الهموم، لولا أنها لا تحمل إلا في القلوب.

علامة واحدة

اتصال ورد هاتفه يخبره بوجود جثث مجهولة بمستشفى شهداء الأقصى، حمله قلبه إلى هناك، فتح ثلاجات الموتى يرافقه أطباء يسجلون أسماء الضحايا، نظر إلى تلك السيدة تأمل في تفاصيلها بملامحها تذكر لحظة خروجها واستئذانها له للذهاب للسوق، شريط ذكريات مرَّ مسرعًا أمامه، لم يعرف أنه سينتهي بهذه السرعة.

يشير إلى المرافقين: "هذه زوجتي"، بينما كان يعيد تلك اللحظات كانت عيناه تتهيآن للبكاء مرة أخرى، تحاول إذابة صلابته وتماسكه: "عرفت زوجتي وابنتي بسرعة، لم تكن النار قد نالت من جسديهما كثيرًا، سترهما الله دنيا وآخرة، ربما توفيتا من الاختناق والدخان، أكدت لهما هوية زوجتي من الملامح ومن خاتم بيدها كان قد أهداه إياه شقيقها، وعرفت ابنتي من لباسها".

حتى تفاصيل الوجع هنا مرهقة: "كانت لينا ستدخل السنة المقبلة الثانوية العامة.. الحمد لله رب العالمين".

يخرج تنهيدة بصوت متألم بعدما أمضى أول ليلة دون زوجته وابنته: "لا أستطيع الانهيار أمام أولادي، يجب أن أبقى صامدًا حتى أثبتهم".

يصمت برهة، يغيب في تفاصيل الحزن، ثم يعاود الكلام: "كل الدنيا وما فيها ما بتعوضني اللي راحوا".

ماذا كانت أحلام لينا؟ بقي السؤال بلا إجابة، فهنا نابت عيناه في رواية الحكاية، مسح دموعه, عاد إلى بيت العزاء مع توافد المعزين.

"الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين، ولا تجترح المعجزات.. كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقًا صغيرًا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود".