فلسطين أون لاين

التهديد الفعلي لفلسطين هو أزمة القيادة (2-2)

...
عمر عبد الرحمن

عمر عبد الرحمن

(معهد بروكينغز)

لا شكّ في أنّ القيادة الفلسطينية ستجد عزاء في قرار الجامعة العربية برفض اقتراح ترامب بالإجماع، ما قضى على آمال الإدارة الأميركية بأن تجمع الدعم لرؤيتها من المنطقة الأوسع. ثم تبع ذلك بعد أيام قرارٌ لمنظمة التعاون الإسلامي دعا الدول الأعضاء السبع والخمسين إلى “عدم الانخراط في الخطّة أو التعاون مع الإدارة الأميركية في تطبيقها بأيّ شكل من الأشكال”.

غير أنّ هذه المواقف تتعارض مع تحوّلات مهمّة في الشرق الأوسط حول المسألة الفلسطينية والعلاقات مع (إسرائيل). فقد قرّبت وقائعُ جيوسياسية جديدة، بما فيها الاضطراب الإقليمي، والتهديدُ المتصوّر للتوسّعية الإيرانية والانحسارُ الأميركي، بين (إسرائيل) وبعض الدول العربية. وعلاوة على ذلك، كيف يمكن للمرء أن يتوقّع أن تمتنع الدول العربية إلى ما لا نهاية عن متابعة مصالح مشتركة مع (إسرائيل) فيما تتعاون السلطة الفلسطينية نفسها مع (إسرائيل) بشكل يومي؟ طبعاً لا يستطيع عبّاس أن يطلب منها أن تكون أكثر تشدّداً من السلطة الفلسطينية نفسها.

ويتّصل بهذا الأمر الجمهورُ العربي الأوسع وحماسه للقضية الفلسطينية، التي عادة ما أدّت دور الكابح للقادة الإقليميين. لكن هذا الحماس تضاءل في الأعوام الأخيرة، ويُعزى ذلك جزئياً إلى احتلال مسائل أخرى أكثر إلحاحاً الأولوية، لكنّه يُعزى أيضاً إلى قيادة الفلسطينيين الهرمة وغير اللافتة وضيّقة الأفق التي لم تحرّك ساكناً مؤخراً لتحميس الرأي العام الإقليمي. (بين إنجاز لمراهقة اسمها عهد التميمي واجهت جندياً إسرائيلياً في العام 2017 كيف يمكن أن تأسر أعمال المقاومة مخيّلة العالم).

ويسري الأمر أيضاً في الداخل حيث تضاءلت شعبية عباس ومصداقيته بسبب غياب التقدّم في شأن تأسيس الدولة والحوكمة الرديئة بالإجمال وتعليق الانتخابات الديمقراطية والرغبة في المحافظة على التعاون الأمني مع (إسرائيل). وعوضاً عن تفويض شرعي، لجأ بشكل متزايد إلى أدوات القمع للبقاء في السلطة. وفي خضمّ ذلك، أسكت النقّادَ وكَبَت النقاش البنّاء وأفقد الشعب حماسه، إلى درجة أنّهت بقيت بالكاد أيّ من الهيكليات التي سمحت للفلسطينيين بتحدّي الاحتلال الإسرائيلي في السابق.

وحيثما كان من الممكن اعتبار منظّمة التحرير الفلسطينية هيئة ممثلة شرعياً، وإنما من دون أن تكون هيئة ديمقراطية، حوّلتها الجهود لتعزيز السيطرة على المؤسسّة إلى كيان فارغ: تمّ إبعاد اللاجئين والشتات عن العملية السياسية، كما أن قسماً كبيراً من المجتمع الفلسطيني المرتبط بالفصائل الإسلامية، مثل حماس، ليس منضوياً تحت مظلة منظمة التحرير وخسرت الفصائل الباقية الكثير من صلتها السابقة بالأوضاع.

لا بديل عن القيادة السياسية

ينبغي أن تكون حالة الشؤون الفلسطينية همّاً للجميع، بغضّ النظر عن خلفيّاتهم السياسية. وكان هذا الضعف هو ما سمح لـ(إسرائيل) بالاستفادة من أفضليّتها إلى أقصى الحدود، وهو أمر يكمن في صلب الجهود الفاشلة لإحلال السلام. وإذا قررت (إسرائيل)، في مرحلة من المراحل في المستقبل، أن من مصلحتها إبرام اتفاق مع الفلسطينيين، فإنها لا توجد جهة شرعية بما فيه الكفاية لدى الفلسطينيين لتوقّع اتفاقية دائمة مجدية. وقد سمح الوهن الفلسطيني أيضاً لأولئك الإسرائيليين الراغبين في الوصول إلى استسلام فلسطيني تامّ باستغلال المبادرة، التي قرّبت (إسرائيل) من الضمّ والفصل العنصري، فضلاً عن الواقع الثنائي الذي هو أكثر ما يخشاه الكثيرُ من الإسرائيليين.

مع ذلك، ما دام الفلسطينيون محرومين من الحقوق المدنية والسياسية، سوف يستمرّ الصراع ويتفاقم ويولّد المزيد من عدم الاستقرار. وفيما أضعفت القيادة الفلسطينية الحالية الحركة الوطنية، فإنها ما تزال تحظى بالكثير من المقوّمات التي تستطيع التعويل عليها: ما تزال الهوية الفلسطينية راسخة ومنتشرة ويشكّل الناشطون والمجتمع المدني وداعموه، ومن ضمنهم مجموعات إسرائيلية ويهودية، على المستوى الشعبي المكوّنَ الأنشط والأكثر إلهاماً في الحركة الوطنية، ويقدّم جيل جديد من الأكاديميين والمفكّرين إطاراً فكرياً جديداً لفهم الصراع ليستعين به الشعب لتوجيه نضاله، وتبقى التعديات اليومية التي يواجهها الفلسطينيون خزّاناً لا ينضب يأخذون منه المبرر والطاقة لمواصلة قضيّتهم.

سيكون من شأن حملة شعبية، على غرار حركة مقاطعة (إسرائيل) وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها التي تأسّست في العام 2005 كوسيلة للضغط على (إسرائيل) في وجه فشل الجهات الفاعلة الحكوميّة في حلّ هذا الصراع، أن تكون آلية قوّية للتغيير، غير أنّها ليست بديلاً عن برنامج سياسي مترابط تسير به قدماً الجهات الفاعلة السياسية.

إن المستقبل الوحيد الذي سيكون للحركة الوطنية الفلسطينية هو أن تفسح القيادة الراهنة المجال أو أن تُرغَم على إفساحه لتعطي الآخرين فرصة للقيادة.