هو عنوان كتاب جديد للأسير الصحفي علي جرادات، أمضى في سجون القهر والعذاب الصهيونية قرابة أربع عشرة سنة، عاش التجربة بكل أبعادها، التحقيق أربع مرات، الاعتقال الإداري، الإقامة الجبرية، المطاردة.
كوميض البرق الصاعق جاءت موضوعات الكتاب، خرق جدار الصمت وأخرج من قحف صدره ما تنوء عن حمله الجبال، بلغة واضحة البيان وبمبضع نطاس بارع شرّح لنا شخصية هذا الساديّ الذي يقف خلف أقبية التحقيق، يتفنّن في دروب القهر وأساليب التعذيب، ويخطط لقهر هذا الزيتون الفلسطيني العريق، يصبّ عليه أحقاده صبّا كما يصبّ الماء المثلج في زمهرير الشتاء على راس ذاك المصلوب في شجرة في فناء السجن. وتبقى شاهدة على هذا العذاب.
ومن هول العذاب تتعملق شخصية هذا الفلسطيني الذي لا يسعه ولا يملك الا ان يلخّص ردّه ببصقة او شتيمة، يردّ بعد ان "يكابد الشبح وهو مكبل اليدين الى الوراء مغطى الراس بكيس شادري سميك، بعد ان يملّ منه الكرسي الصغير المائل المسند الى الامام ليضغط العمود الفقري، او وانت معلق كالذبيحة او تصلب على ماسورة ومعك بقية المشبوحين لا تراهم ولا يرونك، وإذ يهز عنقك وجذعك وصدرك ويدق راسك بالحائط حينا وتلطم وتركل وتضرب بالهراوة وتفرك أعقاب السجائر في وجهك وتغطّس في حوض ماء وإذ تهزّ جسدك اللسعات الكهربائية وتصم أذنيك موسيقى صاخبة... الخ"
ومع كل أشكال التعذيب الجسدي تتمازج معها كل أشكال التعذيب النفسي اذ يعملون على ضرب الكرامة الوطنية والشخصية والإنسانية: تهدّد بالاغتصاب والقتل والابعاد والمنع من السفر وهدم البيت واعتقال الأقارب وتشويه السمعة واطالة أمد التحقيق وإذ يقف سجان فوق رأسك ليركلك كلما داهم النوم جفنتيك، فيمنعك من اية غفوة لتدخل في حالة الهلوسة، فيها ترى ما لا يخطر على بال من الكوابيس وما لا يوصف من الصور المرعبة".
يرسم الكتاب صفحات من الألم النازف في جسم الحياة الفلسطينية التي شقّ فيها الاحتلال أخاديده وزرع القهر بكل أشكاله المقيتة، فمن لحظة الاعتقال التي ينتزع فيها المعتقل من بيته الذي لم يصبح آمنا بوجود هذا الاحتلال الذي يعكّر صفوه وقت ما أملت عليه أحقاده، الى أن يجد نفسه في قاع جيب عسكري تتقاذفه بساطير الجنود وتدق عظامه اعقاب بنادقهم ، الى حيث التحقيق والوجبات الساخنة من العذاب ثم السجن ومعامل الضغط على كل شيء في حياة المعتقل، الغرف المضغوطة فاقدة التهوية مثخنة الرطوبة والبوسطة الحديدية الصماء والمحاكم فاقدة البصر والبصيرة، لا ترى ولا تسمع إلا الظلم وما يطيل أمد السجن.
أرّخ هذا الكتاب الفذّ لمفاصل مهمة من حياة الحركة الاسيرة فكان المحتوى في قمة الأهمية والخطورة كي لا تضيع تلك الالام التي لا تقل عن تاريخ محارقهم مع النازيّة، هم عرفوا كيف يؤرخون مأساتهم وعرفوا كيف يستثمرونها أبشع استثمار، نحن بهذا الكتاب وأمثاله مما صدر نشكل بداية هذا التوثيق ونشكل مداميك في بنيان المأساة الفلسطينية.
كذلك من حيث الأسلوب الفني ومستوى التعبير جاء بلغة سهلة ممتنعة شيّقة عميقة وقوية، ترخي ظلالها على المضمون المرّ فتضفي عليه جمالا وروعة وألقا فريدا.
هذا الكتاب شذرات من حياة الكاتب وحياة الحركة الاسيرة وحياة المجتمع الفلسطيني الذي داهمه هذا الاحتلال الأسود، مشاهد حيّة صاخبة فيها قوة وحضور وشهود ما يجعلها خالدة ببطولة أصحابها ولعنة تلاحق هذا المجرم الى أن نقول له وداعا كما كانت خاتمة رواية صمت البحر للكاتب الفرنسي جان بروليه الذي لم يترك للمحتلّ النازي استحقاقا الا أن يقال له وداعا.