عاش الشعب الفلسطيني منذ عام 1917 تحت نير الاحتلال البريطاني الذي كان أهم أهدافه إقامة وطن لليهود في فلسطين عملاً بوعد بلفور الصادر عام 1911، ومنذ ذلك التاريخ والشعب الفلسطيني يقاوم ويتحدى ويستبسل في الدفاع عن أرضه ولم يغفل عن المآل المظلم الذي تسعى سلطات الانتداب البريطاني لإيصال الشعب الفلسطيني إليه، وتبدّى ذلك من خلال شواهد عدة كان أبرزها تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وهذا ما أدى إلى ثورة الشعب الفلسطيني أكثر من مرة ضد سلطات الانتداب البريطاني ابتداءً بثورة النبي موسى في نيسان 1920 مروراً بثورة يافا أيار 1921 وثورة البراق أغسطس 1929 وثورة الكف الأخضر 1930، وانتفاضة أكتوبر 1933، وحركة الشهيد عز الدين القسام 1935 – 1940 والثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939، ما يعني أنه لم تكد تمر سنة من سني الانتداب البريطاني إلا وكان هناك عمل ثوري ضد هذا الانتداب، الأمر الذي يدل على مدى رفض الشعب الفلسطيني التام للانتداب ومخططاته وكذلك الوعى الكبير الذي تمتع به الشعب الفلسطيني خلال تلك الفترة.
إن كل هذا العمل الثوري المقاوم لم يثنِ سلطات الانتداب عن المضي قدماً في مخططاتها الرامية لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وساعدتها في ذلك الخيانة العربية التي بدأت فصولها الأولى مع تحالف بعض الأنظمة والشخصيات العربية مع الإنجليز ضد الدولة العثمانية (دولة الخلافة) وامتدت هذه الخيانة لتمرير المخطط البريطاني في فلسطين حتى وقعت ضحية هذه الخيانة القذرة وهجر الشعب الفلسطيني من أرضه في أبشع صورة تهجير قسري عرفها تاريخ البشرية الحديثة.
كل ذلك جرى على مرأى ومسمع من الأنظمة العربية التي ساهمت من خلال تحالفها مع بريطانيا في تشريده، وامتدت خيانتها في الخفاء وقبل أن تظهر للعلن في علاقاتها المحرمة مع العدو الصهيوني منذ بداية نشأته.
رغم مرارة التشرد وقسوة المحتل مارس الشعب الفلسطيني حقه وواجبه في مقاومة العدو، وثار مرة أخرى ضد المغتصب الجديد، فكانت الثورة الفلسطينية المسلحة التي انطلقت 1965 ثم انتفاضة الحجارة 1987 والانتفاضة الثانية 2000 قدم فيها شعبنا آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى، وما زال متمسكاً بعهد أسلافه باسترجاع الأرض وطرد الغزاة.
كما أنه رغم كارثة أوسلو التي أرادوها مقبرة للتاريخ الكفاحي الفلسطيني فإنها كانت بداية القيامة المجيدة لشعبنا لتتكاتف قواه الحية وتجترح معجزة العمل المقاوم الذي حقق ولأول مرة في تاريخ الصراع توازن الرعب بين الاحتلال والشعب المقاوم وبعد أن كانت اليد الطولى للاحتلال تضرب في كل مكان غير آبهة بقانون دولي أو أي قيم إنسانية وفي عنفوان غطرسة القوة التي أثقلت رأس العدو كانت قيامة المقاومة لتضع كيان العدو كله في حزام نار تشعله المقاومة متى أرادت وكيفما أرادت. وبإعجاز شعبي سيذكره كتاب التاريخ أصبحت صواريخ المقاومة تهدد عاصمة العدو التي ما تجرأت قيادة عربية في يوم ما على المساس بها خوفا وجزعا من بطش العدو ...
ولكنها إرادة الشعب وعبقرية المقاومة التي جعلت من جيش وجبروت العدو أضحوكة وحققت مقولة: "إنه أوهن من بيت العنكبوت"، وبعد أن صال هذا العدو وجال في أرض العرب قتلا وتدميرا .. ها هو يحسب ألف ألف حساب لكل حركة تصدر عنه خوفا من أن تفسر خطأ فيناله من عقاب المقاومة ما يعجز عن تحمله...
إنها معجزة النضال الفلسطيني الذي تجلت قدرته في مواجهة عدوه فاستصغره وحقره وأعاد أملا مفقودا بأن فلسطين على مرأى البصر تنتظر في حلتها الجديدة يوما قريبا تزف فيها إلى أبطالها القادمين من خلف التلال محررين في صبح فلسطيني مجيد هو أقرب مما يتصوّرون.