بعد أن كشفت سرقة القرن كل المخبوء، وبات المخفي الأعظم ظاهرا للعيان ظهور الشمس في رابعة النهار، لقد بدّدوا كل الآمال عند من كان في عقله وهم السلام معهم، حرقوا جميع السفن لكل من أراد أن يقترب من شواطئ عقولهم أو كل من جرّب وجلس معهم على طاولات مفاوضاتهم، باتت مصطلحات كثيرة محروقة لا طعم لها ولا لون إلا ما يزكم الأنوف ويثير الغثيان: التطبيع، المفاوضات، الاتفاقيات، السلام، التعايش، الحوار، حسن الجوار، الجانب الآخر، الحلّ السلمي. لقد شوّهوا كل المفردات التي تدلّ على أن هناك أملا مع هؤلاء، إنهم باختصار جاهزون دائما وبامتياز للقضاء على أي أمل يلوح في أفق من يتجاهل حقيقتهم التاريخية أو الدينية أو حتى واقعيتهم السياسية التي جسّدوها في ممارساتهم التي أسفرت عن ساديّتهم وتنكرهم لحقوق الآخرين.
لقد بدا التطبيع عجوزا شمطاء رضيت لنفسها أن تسير بلا عقل ولا إحساس ولا شعور على قاعدة "إن لم تستحيِ فاصنع ما شئت". بقيت تسير على غير هدى، تحملها قدمان مرتعشتان واهنتان، كلما أضاء لها وهمها الساذج أو مطامعها المتعلقة براحة بال الاحتلال وبعض الفتات، قامت ثم سرعان ما يظلم عليها فتخرّ له ساجدة، لقد رضيت بالهوان والذلّة وتقديم نفسها رخيصة بل بلا ثمن إلا من بعض امتيازات الاحتلال التي يخادعون بها الناس.
لقد نظّرت علينا طويلا سيّدة تطبيع وكانت لها صولات وجولات، تحلّت بحلل جميلة وتزيّنت بكل أدوات الزينة، تمكيجت وتحمّرت وصبغت وصفصفت شعرها، تغنوجت ورقصت رقصاتها الرشيقة، ولكن الاحتلال أخذها بأحضانه النتنة وراح يخلع عنها ملابسها القطعة تلو الأخرى، كشف كلّ عوراتها، هتك كلّ أسرارها، نشرها على حبل غسيله الوسخ ، أشبعها بصقا وألقى عليها كل قاذوراته، بدت للناس خرقة بالية ، يعافها كل من ينظر إليها فيشيح عنها وجهه مستعيذا بالله منها ومن كل من يحاول الاقتراب منها.
الآن وبعد كل هذا الانكشاف الفاضح، تجد من يخادع نفسه فيغمض عينيه ويسير على غير هدى، يذهب فيعانق هذه العجوز الشمطاء التي خوزقها الخواجا النتن من كلّ جانب وفاحت رائحتها القبيحة فسدّت ما بين المشرق والمغرب، هذه السيدة تطبيع الأشنع والأقبح والأسوأ سيرة وسمعة ومكانة وعهرا تجد من يصرّ على عناقها ورمي نفسه في أحضانها، لماذا؟ وما الذي يريده من هذه المضاجعة النتنة، هل ما زال يأمل بمولود تكتب له الحياة أم بفضيحة تتلبّسه ما تبقى له من عمر ومكانة أو كرامة.
لولا أن الحال وحجم الخراب الذي بداخل من يقبل لنفسه هذا العناق قد بلغ ما بلغ من السيدة تطبيع، لما قبل لنفسه هذا التردي في الدرك الأسفل من الهوان، لا شكّ في هذا لأنهم قد قالوها قديما: الطيور على أشكالها تقع.