بعد قضاء عشرين عاما في السجون الصهيونية تولد منها شاعر له قامة عالية في الشعر، وهذا حدث لا يتكرّر إلا نادرا، أذكر عندما أرسل لنا ديوانه الأوّل في مركز بيت المقدس للأدب أن اللجنة التي عكفت على دراسة هذا الشعر القادم من أعماق السجون قد فوجئت بالأمر، فوجئت بمستوى الأداء المميّز من حيث الوصف والتشبيه وجزالة الكلمة ورقّة المعنى وكذلك فوجئت بالمحتوى واسع التنوّع الذي جاء به شعر عطاطرة ، فمثلا لم نتوقّع منه الشعر الغزلي أن يصل إلى المستوى العالي الذي وصله شعره الوطني ، طبيعي في السجن أن تتميز في الشعر الوطني ولكن أن تأتي أيضا بشعر بعيد عن بيئة السجن القاسية فتطرّز أبلغ القصائد فهذا بالفعل شيء عجيب.
لقد برع عطاطرة في توجيه سهام قلبه في اشتباك دائم مع أعداء الوطن فكان معبرا ومنافحا عن حرية شعبه وأمته ، لم تثنه هذه السنوات الطوال عن هدفه ولم يتخلّ عن دوره بل كان محركا للعمل الثقافي في السجون ومن روّاده الدائبين باستمرار على تطويره والنهوض به ، كذلك اشتغل على نفسه كثيرا في الميدان الثقافي فكان قارئا نهما لا يعرف فتور همّة ، عرف من أين يؤكل الكتف، عرف ماذا أرادوا له من خلال زجّه في السجن كل هذه السنين الطويلة فقرّر أن يخسّرهم أكثر مما يخسر بل عرف كيف يخرج رابحا ومنتصرا، فكان أن حوّل وقت السجن من عدوّ إلى صديق بل إلى مجال للاستثمار فيه أفضل استثمار على صعيده الشخصي وعلى صعيد إخوانه.
ربحت تجارة عطاطرة في السجن مع ربّه إذ طوّر علاقة روحية سمت به عاليا ومنحته روحا معنوية واستقرارا نفسيا شرحت صدره للانطلاق والتحليق عاليا في عالم الأدب بشكل عام ثم في عالم الشعر بشكل خاص.
وربحت تجارة عطاطرة في بناء علاقات طيبة وتوطيد أواصر المحبة مع إخوانه في السجن بما يملك من أحاسيس إنسانية مرهفة وبما بنى من صورة طيبة نسج خيوطها من مداد قلبه الجميل.
وربحت تجارته مع الكتاب حيث ترجمه إلى قدرة عالية في صناعة برامج ثقافية والمثابرة في هذا الخندق المتقدم والمشتبك دوما مع الاحتلال وإدارة السجون التي لا تريد إلا خبالا للأسرى ونزعا لروحهم الوطنية وخلودا للراحة التي لا تجني شيئا وامعانا في العقاب الذي يجعل السجن قوة رادعة. عمر ومن معه من كفاءات ثقافية عالية حوّلت السجن إلى معاقل الأحرار ومصانع تصنع فيها الرجال.
وتوّج ذلك كله بما ينثر قلبه الجميل من شعر رقراق طيب حلو المذاق، شذاه يتحف القلوب ومعانيه تنير العقول وجرسه يحرك الإرادات ويبعث الهمم.
لقد انتصر عمر عطاطرة على سجانه، صحيح أنه دفع عشرين سنة ثقيلة من عمره لكنه استثمر فيها أضعاف ما خسر وأنجز ما يرفع الروح الإنسانية النبيلة وما ينفع الناس بهذا الشعر الذي لا ينقطع المستفيدون منه إلى أمد بعيد.