فلسطين أون لاين

المراوغة في زمن الصفقة

...
شادي أبو صبحة

يبدع الرئيس محمود عباس فنَّ المراوغة على حساب الوطن «يُعطيك من طرف اللسان حلاوة»؛ ولكن هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، فهو لم يعد مهندسَ "أوسلو" الذي كان؛ و(إسرائيل) لم تعد ترضى بتلك القسمة التي وقعت عليها أواخر القرن الماضي تحت شعار مفاوضات السلام «غزة أريحا»، وتأجيل قضية اللاجئين والقدس لمفاوضات الحل النهائي، ولكن ترامب بصفقته اللعينة أتى على ما تبقى من مفاوضات، فمنح (إسرائيل) القدس موحدة، والأغوار كاملة، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وإنهاء قضيتهم للأبد.

وكأنّ في حضرته الشاعر العربي في الزمن القديم يزوره في مقر مقاطعته التي يستظلّ فيها بالاحتلال الذي اغتصب أرضه ودنّس مقدساته «يروغ منك كما يروغ الثعلب»، يمتهن فن المراوغة وسط محنته وظروف القضية الصعبة، يواسي نفسه ومجموعة الطراطير من حوله بكلمات تخفف من مرارة الصفعة، وسط غياب واستحالة التسويات والحلول السياسية.

المراوغة التي ينتهجها رئيس السلطة لم تجد حضوراً لدى الرئيس الأمريكي ولم يفعل كما فعل سابقوه من الرؤساء بإحضار طرفي الصراع وإبرام صفقته كما حدث في "أوسلو"، فهو غير معني بالموقف الفلسطيني في فرض معادلته؛ مستعينا بذلك على إقناع العرب بأن لا داعي للقلق ولا شيء يهدد أوطانكم، ما داموا تحت مظلّة الحماية الأمريكية؛ وأنهم مدعوّون للتطبيع مع (إسرائيل) وإقناع عباس بقبول الصفقة، وكأن الموضوع لا علاقة له بطرد شعب عربي من أراضيه بالقوة والخديعة.

هذا التهميش للسلطة يأتي لتعطيل حضورها وإنهاء زعامتها بعد انتهاء دورها الوظيفي المتمثل في حماية أمن الاحتلال وغضّ الطرف عن التمدد الاستيطاني وتهويد القدس، وإحداث حالة الانقسام الداخلي، وتدهور أوضاع اللاجئين في الشتات، وهي الحالة التي أنهكت الفلسطينيين ما دفع ترامب لإعلان صفقته متجاهلاً الفلسطينيين ومقللًا من توقعاته بردة الفعل إزاء جريمته.

لا شك أن عباس في خطابه أمام اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة أعلن موقفه الرافض للصفقة، ولكنه لم يحدد خطوات عملية لمواجهتها وأظهر حالة الضعف والخسارة التي تعاني منها السلطة بعدما أسست منهجها منذ عقود على المفاوضات المباشرة مع الاحتلال والعمل بالوسائل نفسها والقبول بشبه دولة منزوعة السلاح.

كما خلا خطابه من إنهاء الانقسام الداخلي، في حين رحبت حركة حماس بموقفه الرافض للصفقة ودعته إلى ترجمة هذا الرفض إلى برنامج وطني مشترك لمواجهتها، وطالبت بعقد لقاء وطني قيادي تنبثق عنه رؤية واضحة وخطوات عملية نحو مواجهة صلبة للصفقة؛ كما جاء في اتصال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية مع أبو مازن، ورحبت الفصائل بمبادرة هنية واعتبرتها مقدمة لإنهاء الانقسام، والتفرغ لمواجهة المخاطر المحدقة بالقضية.

ولكن عباس، ومن حوله كان لهم رأي آخر رغم رفضهم الصفقة، فإنهم لا يستطيعون مواجهتها أو التخلي عن منهجهم التاريخي في التسوية، وذلك حفاظا على مصالحهم، فأبو مازن وإن كان موقفه قد جاء بالرفض؛ لكنه بالمقابل يرفض العمل المسلح، ويتمسك بالتنسيق الأمني، ولم يلتزم بقرار المجلس المركزي الأخير، كما أنه يرفض مرجعية واشنطن للمفاوضات، لكنه سيذهب لمجلس الأمن مطالباً بتحقيق السلام.

فشل أبو مازن في إقناع الفلسطينيين بدور واضح للسلطة في مواجهة صفقة القرن، فتجاهل دعوة حماس بحضور وفد المنظمة لغزة ومواجهة الصفقة بالمشاركة الوطنية والاجتماع الشعبي وفضل أن يدور في حلقة سياسية مفرغة في وقت يعجز هو عن تحقيق أي تقدم، وفضّل المراهنة على إقناع أمريكا بدوره الأمني بالتواصل المباشر مع المخابرات الأمريكية، وتقديمه معلومات أمنية للاحتلال.

كان حريا بعباس أخذ خطوات عملية من شأنها وأد الصفقة لو أنه أعلن أمام اجتماع وزراء الخارجية العرب تخليَه عن جميع الاتفاقات الموقعة مع العدو، والتحللَ من "أوسلو"، وإنهاء التنسيق الأمني وإطلاق يد المقاومة، والدفع لإنجاح اللقاء الفصائلي، لكانت خطواته هذه كافية لإنهاء مخططات تصفية القضية.

ولكنه فضّل العودة إلى مربع الانقسام وإشغال الفلسطينيين بخلافاته السياسية، بدلاً من الوقوف في وجه الصفقة، سعياً منه لوقف انزلاق الثورة الشعبية لمستوى انتفاضة تهدد مصالح القطط السّمان، وبالتالي تصبح الصفقة أمرًا واقعًا، ودون إذن من أحد.

ختاماً ينبغي على رئيس السلطة استعادة زمام المبادرة والركون إلى شعبه، والانضواء تحت مظلة العمل الوطني في مقاومة الاحتلال، والقيام بخطوات أكثر جدية في مواجهة مشاريع التصفية فلم يعد الوقت كافياً للانشغال بالانقسام، ولم يعد الاحتلال شريكه في السلام كما كان يعتقد.