لم یكن الإعلان عن لقاء رئیس حكومة الاحتلال بنیامین نتنیاهو ورئیس مجلس السیادة السوداني عبد الفتاح البرهان في مدینة عنتیبي بوسط أوغندا خبراً عادیاً بالتأكید، خصوصاً في ظل التغییر الذي شهده السودان وأیضاً توقیت اللقاء بعد أیام قلیلة من إعلان صفقة القرن، لكن السؤال الآن ما سر الرغبة الإسرائیلیة في التغلغل داخل القارة السمراء؟
فالخطوة التي اتخذها البرهان، وسط ذهول السودانیین، مثلت تلخیصا واقعیا للهمس الذي كان یدور بین الفینة والأخرى عن علاقات مطلوبة مع تل أبیب یقابلها رفض مغلظ في التصریحات العلنیة لنظام البشیر. فكانت هناك أصوات في حكومة البشیر تعلو بین الفینة والأخرى وهي تؤید التطبیع، بینهم والي النیل الأبیض السابق عبد الحمید موسى كاشا، الذي قال في البرلمان: "ما دمنا قبلنا بأمیركا فلنقبل (بإسرائیل)".
بل إن هذه الخطوة من البرهان سبقتها خطوة مماثلة من الرئیس السوداني السابق جعفر نمیري من المطبعین مع الاحتلال, حین وافق على ترحیل آلاف الیهود الفلاشا عبر السودان ومنها لإثیوبیا وصولا إلى (إسرائیل)، في عملیة سهلت استیطان نحو 25 ألف یهودي في فلسطین. ومنذ ذلك الوقت، لم یعرف عن أي مسؤول سوداني رفیع المستوى دخل في لقاءات مباشرة مع إسرائیل على أي مستوى من المستویات، باستثناء تسریبات إعلامیة من وقت لآخر تتحدث عن لقاءات غیر معلنة تمت في عواصم خارجیة، كان أغلبها یقابل بالنفي.
تطبیع العلاقات مع السودان تحدیداً في هذا التوقیت یساعد نتنیاهو في إبراز مؤهلاته الدبلوماسیة قبل شهر من الانتخابات المقررة في الثاني من مارس/آذار المقبل، وهي الانتخابات التي قد تكون الفرصة الأخیرة لنتنیاهو لإنقاذ نفسه بعد أن تم توجیه اتهامات رسمیة له من ناحیة التوصيف القانوني «متهماً » بتلقي الرشوة وخیانة الأمانة والفساد، وأصبح الآن السؤال الذي یطرح نفسه وهو، ما سرّ الإصرار الإسرائيلي على التغلغل في القارة السمراء؟! فلا یمكن خذل تحركات نتنياهو في إفریقیا في المأزق الشخصي الذي یواجهه فقط، فمحاولات (إسرائیل) إقامة علاقات مع دول القارة السمراء لیست ولیدة الانغلاق السیاسي في (تل أبیب) على مدار العام الأخیر، بل ترجع تلك التحركات إلى تاریخ تأسیس (إسرائیل) نفسها عام 1948، وهناك أبعاد استراتیجیة وسیاسیة وأمنیة واقتصادیة وراء المحاولات الإسرائیلیة، تتركز بالأساس في تحقیق اختراق للقارة التي مثلت على مدار سنوات طویلة دعماً مطلقاً للقضیة الفلسطینیة في المحافل الدولیة، وتمثل إفریقیا ( 54 دولة) كتلة تصویتیة مهمة كانت على الدوام ضد (إسرائیل)، لكن ذلك بدأ یتغیر بصورة ملموسة في العقدین الأخیرین.
توقیت تحركات نتنیاهو المكثفة تجاه إفریقیا یتزامن مع الإعلان عن صفقة القرن وما ینتظر أن تسببه من سجالات ومواجهات على المستوى الدولي، ویسعى الاحتلال لحشد التأیید لتلك الصفقة، في ظل رفض الجانب الفلسطیني لها،
وهنا انتهز نتنیاهو الفرصة بتراجع الدور العربي في إفریقیا في السنوات الأخیرة والبناء على التحركات الإسرائیلیة وعقد الاتفاقیات مع كثیر من الدول السمراء، وهو ما بدأ ینعكس مؤخراً في اتجاهات تصویت دول القارة في المحافل الدولیة باستغلالها لصالح الاحتلال.
أما بالنسبة للسودان فلم تحصل من هذا الجنوح للاحتلال على شيء سوى خفي حنین أي الرضى الامریكي والصهیوني، بعد ان حصلت على مكانة وقیمة اضافیة اكتسبتها من لاءات القمة العربیة الشهیرة التي انعقدت في الخرطوم بعد هزیمة ١٩٦٧ (لا صلح – لا اعتراف - لا تفاوض مع إسرائیل).
فالامة العربیة عامة والشعب الفلسطیني خاصة یعتبران لقاء البرهان مع نتنیاهو وصمة عار وطعنة في الظهر، في الوقت الذي بات مطلوبًا مواصلة العمل على نزع الشرعیة عن الاحتلال، وعزله، یأتي اللقاء لیقدم هدیة مجانیة لرئیس حكومة الاحتلال، ومكافأة له على سیاساته العدوانیة والدمویة ضد الفلسطینیین في المناطق المحتلة، وتوغله في تهوید مدینة القدس وطمس معالمها الوطنیة وتهجیر سكانها.