اصطدام المفاوضات بحائط مسدود كما هي الحال مدعاة لنا لتغيير المسار وليس إجراء بعض التعديلات أو التكتيكات في المسار ذاته، أما إذا بلغ الأمر أن تصاغ الصفقات دون الرجوع إليك أو التفاوض معك أو إعطائك أي اعتبار فقد غيّر خصمك مساره مائة وثمانين درجة، فهل نبقى متمترسين في مثل هذا الذي يوصلنا الى جحيم الذي يريدونه لنا وإلى سقف منخفض لا يسعنا إلا أن نخفض رؤوسنا ولا نرفعها أبدا؟
ثبت بما لا شكّ فيه أن العنت القديم لبني إسرائيل مع نبيهم عندما خاضوا معه الجولات التفاوضية حول ذبح البقرة بكل التفاصيل المملة لم يكن سوى شيء يسير مما يحدث اليوم، سابقا وصلوا إلى مقولتهم: إن البقر تشابه علينا، اليوم كلّ شيء حتى في الحقوق التي لا يختلف عليها اثنان قد تشابهت عليهم وأصبحوا متنكرين جاهزين للتفاوض عليها سنوات طويلة دون أن يعطوا حقا ولا باطلا.
واضح أن تغيير الوضع الوظيفي أو اجراء بعض التعديلات هنا وهناك بات لا يسمن ولا يغني من جوع مع هذا الصنف من البشر، لذلك كان لا بدّ من تغيير جوهري يؤدي الى الخروج الكامل من هذا المسار التفاوضي والتحوّل الى مسار آخر، وقد كان فريق أوسلو يسألون المعارضين لهم عن البديل ويرد المعارضون عليهم: ماذا لو وصلتم الى طريق مسدود فهل لديكم بديل؟ فالبديل مطلوب في أي سياسة، والعمل على خيارات عدة هو السياسة الناجحة، في حين المراوحة والمراهنة على خيار وحيد وأوحد هما عملة الفشل السياسي.
والخيارات المتعددة تحتاج إلى بنى تحتية والاستعداد لها وفق مسار طويل فلا تأتي وفق هبّة عاطفية أو حماسة ارتجالية فمسار المقاومة يحتاج الى استعدادات مناسبة لهذا الخيار، فلا يمكن أن نأتي به فجأة من جارور الطاولة أو بعد عملية استرخاء طويلة استغرقت قرابة عقدين من الزمن ونحن ندير ظهورنا له ترانا نعود اليه دون أي مقدمات ، من أراد الخروج فليعدّ له عدّته (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة)، لا يمكن بعد تقويض بنيته واستثنائه من حياتنا فترة طويلة استجابة لشروط عدوّنا على طاولة المفاوضات أن نذهب اليه بمجرد اكتشافنا لخبث عدوّنا وسوء ما انطوت عليه سياسته. لقد كان خطأ كبيرا أن نفاوض دون مقاومة، فالفيتناميون مثلا أصروا على ان تبقى مقاومتهم وكفاحهم المسلح قائما في أثناء اجراء المفاوضات، لن يُعطى محتل أو مستعمر شيئا الا تحت الضغط وأن تكون كلفة احتلاله عالية الثمن، أما أن نتوقع أن يعطي شفقة أو شعورا إنسانيا نبيلا أو بعد اظهار الحجة والبرهان فهذا بعيد جدا إذ لو كانت عنده هذه لما احتل شعبا آخر من الأساس.
لقد بات المطلوب بكل وضوح تغيير المسار كاملا وأن تصل متأخرا خير من ألّا تصل ومصارحة أبي مازن الأخيرة في خطاباته لا تدع مجالا للشك أن خيار المفاوضات مع هذا المحتل أصبح خيارا عبثيا لا جدوى منه سوى كسبهم الوقت ووضع قضيتنا في حالة من التيه والضياع.