لم أنسَ ذلك الموقف وأنا أقدم محاضرة في مركز البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة إفريقيا العالمية بالعاصمة السودانية الخرطوم في أكتوبر 2016، حول علاقة (إسرائيل) بدول الشرق الإفريقي، وكانت تلك المحاضرة تتزامن ومراسم تشييع شمعون بيريس، وتأتي بعد ثلاثة شهور من زيارة بنيامين نتنياهو لبعض الدول الإفريقية، حيث تناولت في المحاضرة التحولات في مواقف بعض دول القارة السمراء من (إسرائيل)، وكيف نجحت الدبلوماسية الإسرائيلية في بناء علاقات مع 40 دولة إفريقية؟ تلك العلاقات المتطورة يوماً بعد يوم تجسدت في افتتاح 10 سفارات في دول إفريقية مختلفة و15 سفارة إفريقية في تل أبيب.
حينها وقعت عيني في عين أحد موظفي السفارة الأثيوبية بالخرطوم، وكان يدوّن ملاحظاته على ورقة، وما أن انتهيت من محاضرتي حتى استأذن مدير الجلسة للحديث، وبدأ حديثه بسؤال مباشر لي: هل تريدنا أن نكون ملكيين أكثر من الملك...؟ ألم يذهب رئيس دولتكم السيد محمود عباس لتشييع جثمان شمعون بيريس..؟ لماذا لم تلتفتوا لما تقوم به (إسرائيل) لدولنا وشعوبنا في مجالات التنمية التي تشهدها أديس أبابا..؟ (إسرائيل) تقدم لنا التكنولوجيا والزراعة بالتنقيط، وتعمل على تدريب جيشنا، وتساهم في تطوير منظومة التعليم والصحة... إلخ. فأين العرب من إفريقيا...؟ انتهت المداخلة، وبكل صراحة حاولت بدبلوماسية هادئة لم تقنعني أنا في احتواء غضبه، وأخذت مسار الحديث في اتجاهات مختلفة.
لكن الحقيقة يجب أن نتحدث بها وجوهرها أن (إسرائيل) كسبت من اتفاق أوسلو أكثر مائة مرة مما كسب الفلسطينيون، ونحن إذ نلوم رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، لا بد من جردة حساب فلسطينية:
في جامعة الدول العربية وخلال قمة وزراء الخارجية العرب تحدث الرئيس عباس عن علاقة السلطة الأمنية مع دولة الاحتلال، وكيف تقدم السلطة خدمات أمنية لا تسر فلسطينيا أو عربيا على هذه المعمورة، بل تشعرنا بالعار أمام الآخرين، فكيف بنا نطالب العالم بمقاطعة الاحتلال وجزء من أبناء جلدتنا يلهث خلف تقديم معلومة تضر بمقاومة شعبنا الفلسطيني للاحتلال...؟
المسألة الثانية أن حديث الدبلوماسي الأثيوبي بحاجة للنظر إليه من زاوية مختلفة تتمثل في طبيعة وجوهر عمل الدبلوماسية الفلسطينية في العالم، فهل ما تقدمه (إسرائيل) للدول الفقيرة ليس بمقدور العرب عموماً والفلسطينيون على وجه الخصوص تقديمه..؟ فنحن مبدعون بالزراعة، والأمن، وغيرها من المجالات التي من الممكن أن نقدمها بدل أن تقتصر دبلوماسيتنا في جمع التبرعات والأموال من هذه الشعوب الفقيرة.
نعود إلى لقاء رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان مع بنيامين نتنياهو في أوغندا، فمن يعرف الشعب السوداني الذي أنهكته العقوبات الأمريكية، يعلم أن فلسطين في قلبه ووجدانه، وعدائه للاحتلال الإسرائيلي لا يوصف، وربما يتفوق على عداء المصريين للاحتلال الصهيوني، ولكن ما يجب أن نلتفت إليه هو حرص الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة أن يصبح مفتاح البيت الأبيض بيد تل أبيب، فمن يريد أن يدخله ينبغي دفع استحقاق ذلك لـ(إسرائيل)، وهذا أحد أهم دوافع إجراء اللقاء من وجهة نظري، حيث سيبرر السيد البرهان اللقاء –إن اعترف به- بطبيعة الواقع الاقتصادي والاجتماعي السوداني المتردّي، لكنه لن يحل أزمته بالأموال الأمريكية، ولن يستفيد من احتمالية تشجيع بعض زعماء المنطقة له وحثه على التقارب مع (إسرائيل)، لأن إرادة الشعوب ترفض ذلك، وأن الشرعية المكتسبة من الولايات المتحدة و(إسرائيل) قد تصلح لزمان ولكنها لن تصلح في كل زمان، وسيكون التاريخ هو الحكم على ما أصاب عالمنا العربي والإسلامي.
من قلب فلسطين هي دعوة للسودان شعباً وحكومةً، أن التطبيع مع (إسرائيل) قد يجلب لكم بعض المال والاستقرار، ولكن تجربتنا مع هذا الاحتلال تؤكد بأنه مشروع استيطاني كولونيالي لن يكفيه سوى الهيمنة والسيطرة على السودان ومواردها، وما تقوم به (إسرائيل) في القرن الإفريقي وتمويل سد النهضة ما هو إلا انعكاس لسياسة (إسرائيل) المعادية لمصالح الأمة العربية والإسلامية، وعليه أثمن كافة الأصوات التي خرجت من السودان منتقدة لهذا اللقاء، وبحكم معرفتي بالسودان والسودانيين فإن ما أتمناه وأتوقعه أن هذا اللقاء هو الأول والأخير.