في معترك النقاش السياسي الذي سبق مؤتمر مدريد وأوسلو من بعده كنا عندما نستشهد بآية قرآنية تظهر طبيعة بني إسرائيل يقال لنا: "أنتم لا علاقة لكم بالسياسة، هذه الآيات تتحدث عن عهود غارقة في التاريخ بعيدة عن رؤية الواقع بعيون سياسية واعية، وخبرات تراكمية على دراية تامة بطبيعة هذا العدو الصهيوني وحلفائه"، حسنًا:
- لقد ثبت بالواقع الملموس أن من كان القرآن يتحدث عنهم أقل سوءًا بكثير من النسخة المعاصرة من بني إسرائيل الحاليين، فمثلًا الآية الكريمة: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، اليوم بات المطلوب حتى يرضوا أكثر من اتباع ملتهم، لابد من تحقيق أمنهم، ولابد من التنازل عن كل حقوقك، وكل ما تملك من أرض، وما تحتها من مياه وغاز وبترول، وما فوقها من أجواء وسماء، ولابد من أن تسلم لهم زمام أمرك وتتنازل عن سيادتك على قرارك، لابد أن تكون مستباحًا لهم في كل شأن من شئونك، منزوع السلاح ضعيفًا موهونًا عبدًا عاملًا رخيصًا تعمل في مصانعهم وورشاتهم لتأكل وتنام وتشكرهم على هذه النعمة دون أن يكون لك حق في وطن أو كرامة أو دولة أو أي وزن على هذه الأرض كبقية البشر، حتى لو فعلت كل هذا فلن يرضوا عنك.
أذكر أني كنت أناقش المحققين في جولات التحقيق في أثناء اعتقالي، وكانوا يمنون علينا أن فتحوا مجالًا للفلسطينيين كي نعمل عندهم وأننا لم نحفظ المعروف وصرنا نطالب بوطن وعلم وحرية، يعني لا يوجد في عقولهم أن الفلسطيني إنسان من حقه أن يكون له وطن، هو فقط مجرد ماكينة مصنوعة لخدمتهم.
- ثبت أيضًا بخصوص احترام العهود والاتفاقيات أنهم لا يعطونها أدنى احترام بل ينقضونها في أقرب وقت ممكن وينقضّون عليها أشرس انقضاض، كنا نقول الآية: "أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم"، اليوم الفريق المعاهد نفسه هو الذي ينقض العهد، واليوم يتفنّنون في طرق نقضهم للاتفاقيات، فمثلًا جاء شارون لينزع من أوسلو روحه وكل ما هو لمصلحة الفلسطينيين فيه، دون أن يعلن أنه قد أسقط اتفاق أوسلو رسميًّا، بقي منه فقط ما يخدم أمنهم، وما يضمن استمرار الاستيطان والعدوان بكل أشكالهما وألوانهما.
- كنا نستشهد بقصتهم مع البقرة والجولات التفاوضية مع نبيهم موسى (عليه السلام) لنبين عنتهم وروحهم الملتوية في الجدل والتفاوض، لكن الخبرة المعاصرة تقول إنهم أسوأ بكثير من أجدادهم الغابرين، وإنهم قد جمعوا سوء الأقدمين وسوء المعاصرين، وإن درجة التوائهم وتعنتهم ومواربتهم في التفاوض لا يسبقهم فيها أحد، حتى قيل لو أن نتنياهو فاوض نتنياهو لما وصل إلى شيء، وقيل عن شامير إنه كان يريد مفاوضة الفلسطينيين عشر سنوات دون الوصول إلى شيء، والواقع أثبت أنهم فاوضونا قرابة عشرين سنة وليتنا لم نصل إلى شيء بل تراجعنا كثيرًا عما كنا عليه، والآن آخر تجليات تفاوضهم ترامب فاوض نتنياهو واستجاب له في كل طلباته ويريد فرضها على الفلسطينيين دون موافقتهم أو أخذ رأيهم.
- كنا نستشهد بالآية: "أم لهم نصيب من الملك فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا"، والنقير معروف، أما الآن فلا يعطون مما لهم، بل إنهم يمارسون هذه الخاصية من حق غيرهم الذي سيطروا عليه ظلمًا وعدوانًا، فلا يعطون منه نقيرًا، وإذا فكروا في التنازل عن شيء من حق غيرهم فإن لهم أن يأخذوا أضعاف ما يردّوه من حقوق أصحابه.
هذه مجرد أمثلة، وقد وصلنا إلى صفقة تتجلّى فيها حالة عدم الرضا المطلق عن الفلسطيني بشقيه المفاوض والمقاوم، ولقد سار معهم المفاوض إلى أبعد حدّ وانخفض إلى أسفّ سقف ممكن وغير ممكن ليصل إلى جزء بسيط من حقّه، وهم يتوسعون استيطانًا وعدوانًا وتوغلًا في الارض والمقدسات وكلّ الحرمات.
وإن صفقة القرن هذه جاءت لتعبر عن أي مدى بلغ استخفافهم بالحق الفلسطيني، وأي مدى بلغوا في درجة استحمارهم للموقف العربي، لن يصل أحد بتفكيره إلى هذا المستوى إلا من يرى مقابله لا وزن له ولا قيمة وأي حق في الحياة على أرضه، ليس له إلا أن يكون عبدًا متوسلًا ذليلًا خانعًا لا حول له ولا قوّة، شعبنا الفلسطيني غير هذا تمامًا ويملك في جعبته الكثير ليثبت وزنه وأنه الرقم الصعب في المنطقة الذي تتحطم عليه كل المهاترات والمؤامرات، وكما نشهد انهيار سقف أوسلو الذي راهن عليه الكثير سينهار هذا السقف المنخفض جدًّا عن أوسلو، الذي يسمى صفقة القرن.