ما من شك أن إعلان ترامب عن صفقة القرن قد وجه ضربة قوية للقضية الفلسطينية، فقد أعطى الاحتلال كل شيء وحرم الفلسطينيين من أي شيء، الأمر الذي جعل الفلسطينيين في مأزق لا يملكون خيارات سوى الرفض، فيما يستغل القادة الإسرائيليون الصفقة كدعاية انتخابية من أجل تشكيل حكومة متعثرة منذ عام. وفي ظل الرفض الفلسطيني للخطة الأمريكية، والتي يرون أنها ستدفن حل الدولتين للأبد، وتشرعن المستوطنات الصهيونية، وتنطوي على التنازل عن القدس، كعاصمة للدولة الفلسطينية وغير ذلك، يطرح مراقبون السؤال: ما هي الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين، الذين يبدون في حالة صدمة، تؤدي بهم إلى مجرد الرفض النظري، في وقت قد يمضي فيه تطبيق الخطة على الأرض بمعزل عنهم.
كان مطلوباً أن يسلم الفلسطينيون بأن القدس عاصمة أبدية وموحدة للدولة العبرية، وهذه مسألة دونها حمامات دم لا يعرف أحد آخرها، فللقدس رمزيتها الدينية التي يستحيل تجاوزها. وكان أيضا مطلوباً نوع من الإقرار بضم الكتل الاستيطانية إلى (إسرائيل)، وهذه مسألة دونها صدامات حياة أو موت لأكثر من (2,5) مليون فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية. كان مطلوباً شطب حق العودة المنصوص عليه في القرارات الدولية، وهذه مسألة لا يملك أحد التصرف فيها بالنظر إلى أن هناك كتلة فلسطينية كبيرة تعيش في المخيمات ومناطق اللجوء، ويستحيل تصور أن تقطع صلاتها بجذورها في الأرض المحتلة. كذلك كان مطلوباً ربط أجزاء من شمال سيناء بقطاع غزة كأنه مشرط جراحي يتلاعب بالجغرافيا السياسية التاريخية لمقتضى المصالح الأمنية الإسرائيلية وحدها. لم يكن أحد في القاهرة مستعداً لمجرد الاستماع إلى ذلك الاقتراح، حسب موقع «ديبكا» الإسرائيلي. ثم كان مطلوباً كاقتراح بديل إنشاء مناطق صناعية في شمال سيناء لتوفير الوظائف لسكان غزة وميناء بحري لانتقال مواطني القطاع منه وإليه تحت إشراف قوات الاحتلال، وانتهى أمره إلى الفشل نفسه.
تكاد تتلخص «صفقة القرن» في خلق الحقائق على الأرض بالقوة واستبعاد أي مرجعيات دولية، أو جداول زمنية، مقابل وعود بتحسين شروط الحياة في قطاع غزة المحاصر وفصل مصيره عن القضية الفلسطينية. استبقت الوعود ضغوطاً اقتصادية ممنهجة لجعل الحياة شبه مستحيلة مثل وقف المساهمات المالية الأمريكية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وتعليق المساعدات المالية التي تقدم للسلطة الفلسطينية بموجب قانون «تايلور فورس»، الذي يمنع تقديم أي مساعدات يمكن أن تستخدم في دفع رواتب الأسرى ومنفذي العمليات.
انظر الى الاحداث التي سبقت اعلان الصفقة فقد جرت عمليات قصف متواصلة لمواقع في غزة واستخدم الحد الأقصى من العنف المفرط والتقتيل المقصود ضد «مسيرات العودة» ومتظاهريها السلميين عند السياج العازل مع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. اليس هذا تعبيراً عن همجية القوة، التي تطلب الإذعان الكامل، وتهيئة البيئة العامة الفلسطينية لتقبل «صفقة القرن» بتنازلاتها المجحفة بكل حق إنساني، أو قانوني، أو تاريخي؟!
نعم لقد وجه ترامب الضربة القاضية للقضية الفلسطينية بصفقته المشبوهة خدمة للدعاية الانتخابية وتبييض صفحته وحليفه نتنياهو من قضايا الفساد وجرائم الحرب، لكن ومع ذلك يبقى البطل الحقيقي في إجهاض «صفقة القرن»، هو المواطن الفلسطيني داخل الأرض المحتلة. هو الذي تحرك وانتفض في القدس المحتلة مرة بعد أخرى، ألهمت صوره تعاطفاً دولياً، ودفع فواتير دم باهظة في مواجهاته بالصدور العارية أمام آلة الحرب الإسرائيلية. وهو الذي وضع على الأرض الخطوط الفلسطينية الحمراء أمام كل الفصائل، وحركته سبقتها في كثير من المواجهات.
إن غياب استراتيجية فلسطينية موحدة، لمواجهة صفقة القرن منذ الإعلان عنها لأول مرة يجعلنا في مأزق كبير، وهو الثغرة الوحيدة التي استغلتها الإدارة الأمريكية والاحتلال لتمرير مخططهم الخطير، وبرغم من ذلك لا تزال الفرصة الآن سانحة والخيارات متعددة أولها السعي لإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني داخليا، ثم التوجه إلى مجلس الأمن الدولي وغيره من الهيئات الدولية، وصولا إلى تفعيل كل أشكال المقاومة الشعبية، ووضع حد للاتفاقات الأمنية والسياسية مع الجانب الإسرائيلي، وفرض مقاطعة شاملة على الاحتلال، ويبدو في حكم المؤكد أن قيادة السلطة لا يمكنها مواصلة نمط علاقتها الحالي مع (تل أبيب)، بعد أن يتم ضم حوالي نصف الضفة الغربية لإسرائيل، فالشارع الفلسطيني يمكن أن ينفجر في أي لحظة، وتندلع انتفاضة ثالثة بشكل ينسف حسابات (إسرائيل) والولايات المتحدة، ونظم الحكم العربية، وقيادة السلطة والتنظيمات الفلسطينية.