من جديد تطفو "صفقة القرن" على السطح، حيث تبحث الإدارة الأميركية مع الجانب الإسرائيلي إمكانية إعلانها رسميا، وذلك بعد تأجيل الخطوة مرات عدة بسبب أزمة تشكيل حكومة الاحتلال وإجراء انتخابات برلمانية للمرة الثالثة بغضون عام واحد. فقد زار مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط آبي بيركوفيتش (خلفا لجيسون غرينبلات) لدولة الاحتلال قبل أيام، واجتمع نتنياهو ورئيس تحالف "أزرق أبيض" بيني غانتس والسفير الأميركي دافيد فريدمان، وبحث معهم إمكانية الإعلان عن تفاصيل الخطة الأميركية قبل او بعد انتخابات (الكنيست)، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه رغم عدم الإفصاح عن بنود "صفقة القرن"، فإن ملامح الخطة المعدلة التي تستبعد إقامة دولة فلسطينية، تشير إلى موافقة الإدارة الأميركية على ضم الكتلة الاستيطانية بما يتماشى مع الإجماع الإسرائيلي، إلى جانب ضم الأغوار، وفرض السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية، ونقل السفارة الأميركية لمقر دائم بالقدس، بما يتناغم مع طرح نتنياهو وأحزاب اليمين.
كان من المزمع الإعلان عن صفقة القرن بداية العام، ولكن تم تأجيلها لما بعد الانتخابات الإسرائيلية المبكرة التي أجريت في شهر نيسان من هذا العام، ولكن فشل نتنياهو بالحصول على أغلبية برلمانية تسمح له بتشكيل الحكومة أدى للدعوة لانتخابات جديدة. وصرحت الرئاسة الأميركية بتأجيل الإعلان عن الخطة لما بعد الانتخابات المبكرة والتي أجريت فعلياً في أيلول من هذا العام. ومرة ثانية، فشل نتنياهو في تشكيل حكومة مع حلفائه اليمين أو حكومة وحدة وطنية. الكرة الآن في ملعب غانتس رئيس حزب أبيض أزرق، والذي تم تكليفه بتشكيل الحكومة الإسرائيلية، ومن ذلك يتضح أن الإعلان عن محتوى خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط المعروفة بـ"صفقة القرن" قد أصبحت رهينة للانتخابات الإسرائيلية، وتشكيل الحكومة الإسرائيلية.
إن مثل هذه التمثيلية بين الطرفين الامريكي والاسرائيلي ليست بجديدة ومثلها مثل تمثيلية "خارطة الطريق" و"انابوليس" وقبلها اتفاق أوسلو.. الخ وكلها كانت مضيعة للوقت وتصب في صالح الاحتلال والآن تستهدف خطة ترامب كل حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والتي لم تكتفِ بمحاولات تصفية "أونروا" التي تأسست بتفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تمثل شعوب العالم قاطبة، بل إنه يستهدف كل قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وفي مقدمتها القرارات التي تؤكد على حق شعبنا في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني المحتل منذ عام ١٩٦٧ بما في ذلك القدس العربية المحتلة، عاصمة فلسطين.
لا شك أننا الفلسطينيين أول الخاسرين إذا اعتقدنا بأن صفقة القرن ستكون افضل من سابقاتها التي اكتوينا بنارها، فما ننتظر؟! بعد أن امتدت يد هذا التحالف الى القدس في محاولة لتكريسها عاصمة للاحتلال الإسرائيلي باعتراف ترامب وإدارته ثم محاولة إعطاء شرعية للمستعمرات المقامة على الاراضي المحتلة وإعطاء الضوء الأخضر لبناء المزيد ثم الحديث عن نوايا ضم الأغوار لدولة الاحتلال وما تخلل كل ذلك من مواقف وتصريحات أميركية - إسرائيلية مناقضة للشرعية الدولية وقراراتها بدأ الاحتلال بالإعلان جهارا على لسان وزير جيشه، نفتالي بينيت، عن تشكيل مجلس خاص لتعزيز الاستيطان في الاراضي المحتلة وبناء المزيد من المستعمرات ثم الحديث عن خطوات إسرائيلية لضم المنطقة «ج» وأخيرا الإعلان عن التهام عشرات الآلاف من الدونمات في المنطقة «ج» بما فيها نسبة كبيرة من الاراضي الفلسطينية الخاصة لإقامة ما أسمي «المحميات الطبيعية»، وكل ذلك بهدف محاصرة البناء الفلسطيني وسط استمرار سياسة هدم المنازل الفلسطينية في هذه المنطقة، وغير ذلك من الممارسات الإسرائيلية المدعومة من قبل إدارة ترامب.
ومن الواضح أن إدارة ترامب والاحتلال يشنان حربا شاملة ضد شعبنا وحقوقه المشروعة، ويدفعان بالمنطقة نحو مزيد من التوتر وربما الانفجار وكل ذلك خدمة لليمين الصهيوني المتطرف بقيادة نتنياهو وائتلافه وخدمة لليمين الأميركي الذي أوصل ترامب الى سدة الحكم والذي يرى فيه ترامب عبر خطواته الداعية للاحتلال والصهيونية المنقذ في الانتخابات الأميركية القادمة، كما يرى نتنياهو في المزيد من خطواته العدائية ضد الشعب الفلسطيني منقذا له في الانتخابات الإسرائيلية القادمة ساعيا للفوز بأي ثمن للتخلص من تهم الفساد الموجهة له رسميا.
إن محاولة فرض حل أقل من طموحات الشعب الفلسطيني سيكون كابوسا أمنيا للاحتلال لأنه سوف يلقى مقاومة كبيرة من الفلسطينيين. أما على المدى الاستراتيجي، فإن الخيار الأقوى أن الاحتلال سوف يذهب الى خيار الدولة الواحدة مرغما، ولكن مع نظامين، واحد للإسرائيليين وآخر للفلسطينيين والذي سيقوم على حرمانهم من حقوقهم السياسية، والذي سيحول الاحتلال إلى دولة عنصرية كما كان الحال في جنوب أفريقيا، وهذا سيكون بداية النهاية للمشروع الصهيوني القائم على يهودية الدول.
إضافة لذلك، فإن ترامب سوف يكون مشغولا بإجراءات عزله، أو في الانتخابات الرئاسية الي ستتم في نهاية العام المقبل. وبكل الأحوال، فإن الحماس لصفقة القرن قد يكون تلاشى ومعه الداعمون الإقليميون. فكل من ترامب ونتنياهو، وهما عرابا صفقة القرن، يصارعان للإبقاء على مستقبلهما السياسي الذي هو في مرحلة الأفول، ونهايتهما السياسية تعني بالتأكيد نهاية الصفقة حكماً، ولذا فقد لا ترى صفقة القرن النور بتاتا.