فلسطين أون لاين

سبعينيّة عادت للتربية من جديد

المسنة "أبو ملحوس".. المتبقي الوحيد لـ13 طفلاً ناجيًا من "القصف المميت"

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

كل الذين توجعوا من الفقدان لن تشفي الدموع جروح قلوبهم، لن تعيد لهم من رحلوا، فأي إنسان يرحل لا ينتهي بنظر الذين يحبونه إلا إذا غسلوه بالدموع.. الدموع هي ذرات التراب الأخيرة التي تقول لهم إنهم رحلوا.. المسنة سلمية أبو ملحوس (السواركة) وقفت حائرة أمام تسعة جثامين لأبنائها وأحفادها ممددة أمامها، تنثر الماء من عيونها على أجسادهم.

كانت صامتة في مراسم وداعهم دون كلام، فالفراق هنا لسانه الدموع، تعيش "مجزرة" محت عائلتها وخطفت ابنيها الوحيدين من الذكور "محمد" و"رسمي"، لا تعرف من تودع أولا وعلى أي جبين تضع قبلتها الأخيرة قبل مواراتهم الثرى، فظلت تتجرع مرارة الحسرة بعد أن استوطن الحزن قلبها ساكنة صامتة، فلا يمكن للدموع استرداد الراحلين.

الشقيقان "محمد" و"رسمي" كانا يعيشان في بيتين صغيرين مسقوفين بألواح "الزينكو"، نائمين مع أطفالهما في بيتيهما، ترافق نومهم "أحلام جميلة بالعيش حياة أفضل"، أغلقوا آذانهم على أصوات الصواريخ في الخارج خلال جولة عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، لكن طائرات الاحتلال لم تدعهم ينامون دون أن تلقي عليهم أربعة صواريخ، ليستشهد في "المجزرة" تسعة أفراد ويصاب 12 طفلاً.

أشلاء وإصابات.. أربع حفر عميقة في الأرض.. أطفال انتشلوا من تحت التراب، لا يزالون يعيشون على وقع الصدمة، بعض ألواح "الزينكو"؛ أربعة أطنان من الصواريخ ألقيت دفعة واحدة على المنزلين الصغيرين الواقعين بمنطقة دير البلح وسط قطاع غزة بعد منتصف ليلة الخميس 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، "مجزرة" ستبقى شاهدة على ألم كل طفل من عائلة "أبو ملحوس" سيعيش ما تبقى من عمره بلا أب، ولن تمحو الأيام صوت الصواريخ وهي تسقط بلا رحمة عليهم حتى أحالت بيتيهما إلى ركام.

احتضنت الشهداء والناجين

في الغرفة ذاتها التي ودعت فيها المسنّة "أبو ملحوس" أبناءها وأحفادها، تجلس اليوم لكن هذه المرة محاطة بجميع أحفادها الناجين من "القصف المميت".. في هذا العمر وبعد أن طرقت باب السبعين عاما من عمرها أُجبرت على أن تعود إلى التربية من جديد، لكن هذه المرة عليها أن تربي 13 طفلًا من أحفادها الذين فقدوا آباءهم، لتتحمل مسؤولية وأعباء كبيرة ألقيت على كاهلها، وهي بالكاد تستطيع المشي بخطوات متثاقلة، ولم ترمم بعد جروح قلبها من فراق أحبابها.

اهتزت أصابعها وهي تحاول الإمساك بيد الكرسي البلاستيكي قبل أن تجلس عليه، أصبحت وحيدةً مع هؤلاء الأطفال إلا من وسام (35 عامًا) إحدى زوجتَيْ نجلها "رسمي" التي نجت من الموت، تعينها على حِملها.

الشمس تتوسط قلب السماء، وعقارب الساعة تشير إلى الثانية ظهرًا، حينما وصلنا بيتها القديم المنفصل عن بيتي نجليها الشهيدين على بعد نحو كيلومتر، ومسقوف بألواح "الإسبست".

ترسم عيون كل طفل حولها قصة ألم وفراق، أرواح تتراوح أعمارها ما بين ثلاثة إلى 12 عامًا، يعيشون بلا أحضان أمهاتهم وقبلات آبائهم الدافئة، كأن الحياة تجمدت أمام مرآهم، شعور أخفته كل ابتسامة ممزوجة بالحزن حاولوا إظهارها لنا، لكن وجوههم الشاحبة وعيونهم التي لم تجف بعد من الدموع لم تخفِ هذا الوجع الذي ينخر قلوبهم.

يصعب عليك حفظ وتذكر أسماء الشهداء أو الناجين لكثرة أعدادهم أمامك، فمن البداية دونت أسماءهم على ورقة، فحفظ كل هذا العدد يحتاج إلى وقت طويل.

في الغرفة ذاتها تجلس الطفلة نور (12 عامًا) التي كانت مستيقظة لحظة إلقاء الصواريخ عليهم  وشقيقاتها: نرمين (10 أعوام)، وريم (8 أعوام) ولمى (5 أعوام)، وسالم (3 أعوام) الذي لا يعرف حقيقة ما جرى لكنه يفتقد والديه، فبعد أكثر من شهر ونصف لم يجد إجابة عن سؤاله: "وين بابا؟".

هؤلاء الأطفال الخمسة فقدوا والدهم محمد (39 عامًا) وأمهم يسرى (38 عامًا) وشقيقهم وسيم (14 عامًا) ومعاذ (7 أعوام).

لو قُدِّر لعقارب الساعة أن تعود للخلف لأعادها أولئك الأطفال الذين عاشوا حدثًا "مرعبًا"، وهو يتكرّر كلّ يوم في ذاكرتهم لا يستطيعون الهرب منه.. صوت الصواريخ يئز في أذن نور وشقيقاتها، تفترش تلك "الجريمة" التي جعلتها ترى المسافة الحقيقية بينها وبين الموت ذاكرتها، لا يزال صدى صوت الصواريخ الإسرائيلية التي انهالت عليهم تتردد في أذنيها، لا تفارقها حتى وهي على سرير نومها.

استشهد في القصف كذلك رسمي (45 عامًا) وزوجته الثانية مريم (34 عامًا) التي استشهدت مع طفليها: فراس (عام ونصف) وسالم (عامان ونصف)، وشقيقهما من والدهما مهند (13 عاما).

فيما كان أبناء الشهيد "رسمي" الناجون من القصف يحضرون حديثنا، وهم ضياء (10 أعوام)، ويوسف (8 أعوام)، وفهد (6 أعوام)، وفوزي (4 أعوام) ورسمية (عامان)، والرضيعة فرح (شهران)، بالإضافة لمحمد (19 عاما) وسجى (17 عاما) اللذين لم يتواجدا بالبيت لحظة وصولنا.

تفاصيل "المجزرة"

بقيت لحظات وتدق عقارب الساعة عند منتصف الليل، لحظات وسيأتي فجر جديد، أحلام نامت مع أطفال العائلة في تلك الليلة، توارت وراء الأفق على أمل أن تشرق مع شمس يوم جديد، وكأن عاصفة الوداع تغير على عائلة "أبو ملحوس"، أصوات الصواريخ في الخارج تثير غبار القلق في قلب نور وهي تحدث والدتها: "أنا خايفة كتير يمّا من صوت الصواريخ والقصف"، احتفظت الأم بصمتها وهدأت من روع ابنتها المرتجفة.

ما أن تذكرت نور تلك التفاصيل حتى دغدغت مشاعرها، وقبل أن تتوقف عن إكمال التفاصيل المرعبة، قالت ما بقي عالقا في ذاكرتها: "بعد أن تلت عليّ أمي آيات من القرآن وذهبت، بقيت مستيقظة بغرفتي مع إخوتي النائمين حولي، لا أعرف النوم، حتى سمعت صوت الصواريخ تسقط علينا كالمطر، كان مشهدا مرعبا لا أستطيع وصفه، لم أر شيئًا إلا أنني قُذفت إلى الخارج ونُقلت بسيارات الإسعاف (..) لم أعِ ما حصل إلا عندما ذهبت لثلاجات الموتى بالمشفى ووجدت إخوتي ووالدي شهداء".

لحظة القصف اجتاح القلق قلب الجدة، حتى خرجت عن صمتها تحدث نفسها: "يا ساتر يا رب، بس ما يكون صاير لأولادي رسمي ومحمد أي شيء".

بعد مرور عدة دقائق، يركض الطفل ضياء باتجاه بيت جدته الذي يبعد نحو كيلومتر عن البيتين المقصوفين ينادي عليها من بعيد: "جدتي جدتي.. قصفونااا"، لكنها لم تسمع صوته حتى وصلها بعد أن التقط أنفاسه بصوت يرتجف، خائف بالكاد استطاع إخراج هذه الكلمات من شفتيه الراجفتين: "الطيارة ضربتنا.. ومتنا كلنا.. عمي محمد الدم سايل منه، وأبويا رسمي مش عارفين وينه!".

كأن الدم تجمد في عروقها أمام هول الصدمة، حبست أنفاسها، اهتز قلبها ورجّت دقاته، مطلقة العنان لدموعها تسحّ على وجنتيها.

صوت الجدة "أبو ملحوس" بدا كجمرة أذابها الفراق، دغدغت الدموع مشاعرها وكأن الحدث الذي مر عليه أكثر من شهر ونصف وقع بالأمس: "كانت أجواء القصف صعبة، فجأة سمعت صوت أربعة صواريخ سقطت قريبة منا اهتزت على إثرها جدران منزلي".

ضياء الذي يجلس بجوار جدته، لا يزال يعيش على وقع الصدمة ويتذكر تلك التفاصيل المرعبة: "كنت جالسا مع شقيقي مهند فجأة رأيت وميضا كبيرا، وسمعت صوت الصواريخ، بعد عدة دقائق ناديت على أخي فلم يسمعني، فقمت بالحفر على المكان الذي كنا نجلس فيه فوجدته وحفرت أكثر، وأخرجته من تحت التراب".

ظل ضياء يحاول إيقاظ شقيقه الذي لم يستجب لكل نداءاته، يشده نحوه، يهز رأسه، لكنه فشل في ذلك، فقد كان يسبح في بركة من الدماء.. ثم انتقل لبضعة أمتار ليجد عمه محمد ممددًا أمامه، وأشقاءه وأبناء عمه ما بين شهيد وجريح، مشهد لن تمحوه الأيام ولا السنين من ذاكرة هذا الطفل، لن تنسيه كرة القدم التي كان يلهو بها مع أطفال الحي أمام المنزل لحظة وصولنا، ما حدث.

تسللت شمس الحزن في صباح اليوم التالي للمجزرة قلب المسنة "أم رسمي"، لم تتخيل هذه الجدة يومًا أن تأتي اللحظة وتستيقظ دون ابنيها، فقد اختفى ظلهما من بيتها عندما كانا يزورانها، بل من الحياة، كل شيء بات من الذكريات، لم يبقَ إلا صدى أصواتهم.

تطل كلمات الجدة من رحم الألم موجوعة مرة أخرى: "هذا احتلال مجرم، أبنائي كانوا نائمين، لقد قتلهم وأحفادي بدم بارد".

احتست جرعة من صمت، ثم كسرت هذا السكوت: "لا أعرف كيف أستطيع الحديث إليك، إلى الآن لا أصدق ما حدث، أشعر أنني في حلم لم أفق منه".

حياة متجمدة

"ماذا تعني الحياة عندما أفقد أبنائي وأحفادي وأنا كبيرة بالسن؟".. تشير نحو الأطفال بصوتها المكسور بوجع الفقد وعيونها التي لم تأذن لها بسكب بدموعها رغم ما تخفيفه من حزن بدا واضحا خلف نظراتها المتألمة: "سأربي هؤلاء الأطفال إلى أن يكبروا كي يرفعوا معنوياتي".

وحدها الدموع هي التي تخفف حزنها مساءً والأطفال نيام؛ لتخفف عنها، وكأنها أصبحت ضيفها الدائم وملاذها حين تجوب الذكريات عقلها.

تروي تعرجات وجه هذه السبعينية التي حنى العمر ظهرها حكايةً مغلفةً بالمعاناةِ والألم، فتقول ولا يظهر من نقابها الأسود التي ترتديه بالطريقة البدوية سوى عينيها المتعبتين: "فقدت نجلَيَّ الوحيدين رسمي ومحمد، زوجي توفي قبل ثلاثة أعوام، ولم يبق إلا أنا لهؤلاء الأطفال، فصرت مجبورة بالسهر على أحوالهم ورعايتهم بالمأكل والملبس وما أستطيع فعله".

حضرت حديثنا ابنتها "أم معتز" (متزوجة جاءت لزيارتها) تحاول أن تأتي كل مدة لبيت والدتها المسنة لمساعدتها، تختصر حديثها بالقول: "ماذا نفعل؟ ما ذنب هؤلاء الأطفال ليفقدوا آباءهم؟ ما حدث مجزرة وجريمة بشعة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحقنا".

"الجرح عميق، نحاول ترميمه!".. بهذه الكلمات مع تنهيدة ساخنة خرجت من حنجرتها، تتحدث عن مائة حكاية بداخلها، رغم أن نقابها الأسود يحجب ملامح وجهها قائلة: "زارني أخي محمد قبل مدة، ووقف بجانب أرضي يرفع يديه للسماء داعيًا: "يا رب توعدني ببيت"، ليغنيه عن البيت المسقوف بـ"الزينكو".

ترد على ادعاء الاحتلال بأن جيشه "أخطأ الهدف حينما قصف منزل العائلة"، بالقول: "نحن نعرف أن (إسرائيل) التي تمتلك منظومة تكنولوجيا متطورة لا تخطئ أهدافها، وادعاءاتهم كاذبة فهذه الجريمة كانت متعمدة".