فلسطين أون لاين

"دخلتُ شبلًا وسأخرج أسدًا" هذا ما وعدَ به الفتى محمد طه "أمَّه"

...
صورة أرشيفية للفتى محمد طه
غزة - يحيى اليعقوبي

السبت 30 كانون الثاني (يناير) 2016م كان يومًا مشتعلًا بالأحداث بمدينة القدس، الفتى محمد طه (14 عامًا) يسكن مخيم شعفاط بالمدينة المقدسة، كان قد ذهب إلى الصلاة في المسجد الأقصى، لكنه لم يعلم أن هناك أحداثًا ملتهبة، وفي طريق خروجه من القدس من باب العمود بعد أن انتهى من أداء صلاته، وعلى وقع أصوات صراخ وأناس تركض وإطلاق نار؛ ركض هو وصديقه.

وانتهى الحدث هكذا، لكن الأمر لدى الاحتلال لم ينتهِ؛ فالمنطقة تعج بالكاميرات من كل مكان، التي التقطت صورة لمحمد وهو يركض ويحمل بيديه "نظارة" _حسبما قالت والدته حنان طه (43 عامًا) لنا_ يدعي الاحتلال أنها "سكين".

وبناءً على المعطيات السابقة نشر الاحتلال صورة لمحمد على مواقع التواصل الاجتماعي، محاولًا جمع معلومات عن صاحب الصورة، بالادعاء أنه مُنفذ عملية طعن أدت إلى إصابة مستوطن، حتى انهالت التعليقات العربية التي نشرت اسمه بأنه الفتى محمد طه (14 عامًا).

والدته التي لا تدري ما يجري سوى أنها أرسلت فتاها الأصغر من بين أولادها الخمسة لأداء الصلاة في المسجد الأقصى، وتحضر نفسها لأخذ "آخر العنقود" معها لأداء مناسك العمرة في الديار الحجازية؛ تلقت اتصالًا هاتفيًّا من رقمٍ مجهول.

ما إن بدأ المتصل (ضابط مخابرات بجيش الاحتلال) بالتحدث حتى صدمها: "ابنك نفذ عملية طعن"، لم تعرف من أين تبدأ بالرد معه ليتبع ما قاله: "هو مطلوب، يجب تسليمه؛ فقد أظهرته الكاميرات"، مازالت تستمع إلى ما يقول ليختم الاتصال الأول بتهديده: "إن لم تسلَّموه إلينا فسنقتله، إن وجدناه".

هنا تسابقت الكلمات وعلَت نبرة صوتها على ذلك الضابط: "انتظر، نحن لا نعرف مكانه، إذا أمسكتم به طمئنونا عليه"، ومر اليوم دون أي معلومات عن محمد.

في ظهيرة اليوم الثاني (الأحد) آخر أيام كانون الثاني جاء محمد إلى منزله، مباشرةً بدأ يقبل قدمي والدته، يتبادلان البكاء، تزامن ذلك واتصالات مكثفة من جيش الاحتلال على والدته، تسأله:

- إنت يمَّا عملت إشي؟

- لا.

- ما الذي كان بيدك في أثناء ركضك بالقدس؟

لم يتوان عن الإجابة: "كانت نظارتي وليست سكينًا".

وبعدها استمر الاثنان بالبكاء، أمام تهديد جيش الاحتلال الذي يتوعد بإعدام محمد، فاتخذت قرارها بتسليمه إلى الحاجز العسكري، "تزعلوش علي" قالها لإخوته الأربعة (بنتين وشابين) قبل مغادرته مع والدته إلى الحاجز العسكري.

وخلال الطريق إلى الحاجز الذي يستغرق وصول محمد ووالدته إليه قرابة ربع ساعة، توصيه: "دير بالك على حالك (...) إن شاء الله بطولش"، ابنها الفتى الذي لا يعلم حقيقة ما سيحل به أخذ يُقبل يديها.

توقفت السيارة عند الحاجز الإسرائيلي، ولما نزل محمد ووالدته منها وأرادت أن تعانق نجلها الصغير؛ سحبته يدا جنديين إسرائيليين إلى داخل المركبة العسكرية، ومنعا لحظة فراقٍ حميمة بين الأم وابنها.

مرت ثلاثة أشهر، وكانت والدة محمد تُمنع من زيارته، وفي أول لقاءٍ بينهما بعد مرور 90 يومًا أكمل لها تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم عندما سلمته إلى الحاجز العسكري، بأن الجنديين استمرا بضربه طوال الطريق، كل واحد يتناوب على ضربه من جانب.

تنساب دموع هذا الطفل الذي اشتاق إلى والدته في سرد تفاصيل ما جرى له: "ضربوني ضرب كتير، مش راح أقولك عليه لأنك مش حتتحملي".

بعد ذلك استمر الاحتلال في تأجيل جلسات المحاكمة لمحمد، حتى أصدر حكمه النهائي في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016م بسجنه مدة 11 عامًا.

صوت قلبها يكتوي أكثر وهي تقول: "في أول زيارتين إلى محمد كانت الأمور صعبة، كنت أذهب مقهورة إلى السجن، لكن الآن اعتدت الأمر".

وبعد عامٍ على سجن نجلها تشعر أن كلامه تغير وبدا أكثر نضجًا؛ فقد تعلّم الصبر والحكمة من احتكاكه بالأسرى داخل سجون الاحتلال.

في إحدى الزيارات أخبرت نجلها ما قاله لها المحامي: "هناك استئناف للمحكمة بعد كل عام، بأن يقف المتهم أمام القاضي الإسرائيلي، ويعتذر مقرًّا بأنه أخطأ بحق الاحتلال".

- بدي أقضي 11 سنة ومش معتذر لهم، ما سويتش شي غلط.

رده ذلك على والدته كانًا ممزوجًا بالإصرار.

بعث رسالة إلى أهله، بوساطة سجين انتهت محكوميته، عنوانها: "من محمد إلى أجمل الغوالي"، يريد الاطمئنان فيها على أحوالهم، يسأل عن أحوال إخوته وعماته وخالاته وجدته، يعدد أسماءهم جميعًا وأسماء أبناء حارته يطلب إيصال سلامه إليهم (...)، يوصي والدته: "يما ما تحزني علي؛ أنا دخلت شبل وراح أطلع أسد وأنور الحارة ... الحكم حكم ربنا وما تحزنوا على حكم (11 سنة)؛ غمضوا عيون فتحوا عيون بكون مروح، قربت".

السطور السابقة لم تستطع والدته قراءتها من شدة البكاء، بل أسمعتها إياها ابنتها، وفي اليوم التالي لهذه الرسالة زارت نجلها، بناء على مواعيد تحددها مصلحة السجون لعائلات الأسرى، وبدأت الحديث عبر الهاتف مع ابنها الذي لا تسطيع ملامسته أو رؤيته، مع أنها لا تبعد عنه كثيرًا، نتيجة إجراءات الاحتلال بجعل الزيارات مقتصرة فقط على الحديث عبر الهاتف من خلف النوافذ الزجاجية.

"اشتقت أقعد معك وتعصبي مني" يحدث محمد والدته بعد أن أكله الشوق في عامه الأول من الأسر.

ثم تكمل لنا الحديث عن صفاته بأنه نشيطٌ ومرح، وكان قد سجل في مدرسة خاصة لتعلم صيانة التبريد والتكييف، وكان الأصغر بين إخوته، يساعدها في كل شيء، يحب الجولات السياحية إلى ربوع فلسطين.

تعود بذاكرتها إلى الوراء وتستذكر مغامرات ابنها، أنه في أحد الأيام سمعت صوت قرع باب منزلهم، وبمجرد أن فتحت الباب وجدت محمدًا ممددًا على الأرض، تنادي عليه ولا يستيقظ، فظنَّت أن شيئًا قد حدث له، وفجأةً نهض يضحك بعد أن كاد يوقع قلب والدته من الخوف، يقول لها دائمًا: "أنت حبيبتي في هذه الدنيا"، ويدخر من مصروفه اليومي كي يُحضر لها الهدايا في المناسبات السعيدة.

المشهد المتكرر دائمًا أن الأسير الفتى كان يفجر بركان قلبه ليعبر عن غضبه لما يحدث بالقدس، "بس أكبر" يكررها كثيرًا، بحرقة الأم على نجلها توصيه: "أنت صغير يما، أوعك بضيعوك وبنضيع من بعدك".