سجّلت كلمات الرئيس التونسي التي غرّد بها على مواقع التواصل الاجتماعي حول العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة حدثاً فاصلاً وذا أهمية كبيرة، يضاف إلى دراماتيكية تواتر تفاصيل العدوان الصهيوني الغاشم على القطاع.
مضمون تغريدة الرئيس قيس سعيد تؤكد على ثبات مواقفه التي أفصح عنها لدى طرحه برنامجه الانتخابي قبل فوزه بالانتخابات، إلا أن موقفه الواضح من العدوان على غزة يشير إلى موقف يعبر عن شجاعة في قول كلمة الحق رغم توازنات محلية وإقليمية ودولية فرضت نفسها وبعثرت الكثير من الأوراق، حتى باتت عملية "هرولة" بعض الأقطار العربية باتجاه دولة الاحتلال أمراً غير مستغرب، تحت عناوين تبدّل خارطة التحالفات في المنطقة.
حالة "التبدل" المقصودة تلك في خارطة التحالفات يكاد يرافقها تغيير في العقيدة السياسية، بدأت تطال الثوابت الوطنية والقومية، اتخذت شكلاً حاداً من الفرز العقائدي والفكري، يقابلها محاولات لما يعرف بعملية "كي الوعي" أو "غسيل الدماغ" بغية تهيئة المناخ السياسي لإنجاح مخططات تصفية القضية الفلسطينية.
تونس ليست استثناءً في دوامة الاستقطاب خاصة مع معاناتها نتيجة الأزمات الاقتصادية التي تعيشها، إضافة لما عايشته ولا تزال جراء تأثيرات الثورات المضادة من أجل إعادتها إلى حظيرة الدكتاتورية والتبعية.
إلا أن موقف الدولة التونسية متمثلاً بالرئيس سعيد الذي تفرّد كرئيس دولة عربية بالرفض الصريح للعدوان الصهيوني على القطاع المحاصر، وبموقف وزارة الخارجية التي "جدّدت موقف البلاد الثابت والمبدئي الداعم للقضية الفلسطينية العادلة وطالبت الأطراف الدولية بتحمل مسؤولياتها لوقف العدوان"، بحسب ما ورد في بيانها، كان يعبّر عن حالة استثنائية لصوت الضمير الحي، الذي صدح بصرخته المدوية ليوقظ جموع الصامتين، ويوبخ جموع المتخاذلين إزاء الجريمة الصهيونية النكراء.
بل ذهب الرئيس قيس سعيد إلى أبعد من ذلك حين عبّر بكلماته عن نبض الشارع التونسي والعربي المؤيد للمقاومة التي دفعت عنها العدوان، وردّت بما أتيح لها من إمكانيات متواضعة أمام ترسانة الاحتلال العسكرية المتطورة، لتُحدث فرقاً معنوياً، بعد أن أرهبت قطعان المستوطنين الذين فروا إلى الملاجئ، وأربكت حسابات حكومة الاحتلال، ولتحظى بإعجاب الرئيس التونسي ومعه أشقاؤها من الشعوب العربية والإسلامية المناصرة لها، ما جعلت الرئيس التونسي يهتف في تغريدته قائلاً بأن "غزة عفرت آلة الحرب الإسرائيلية الحديثة بالتراب".
مثّل موقف الرئيس التونسي وحكومته "رمزية"، تتشعب بمدلولاتها لتشتمل على الجرأة في قول الحق، في زمن عمّ فيه الصمت، إضافة لاعتباراته المعنوية عند المقاومين الذين يتسلحون بهذه المواقف في حربهم المفتوحة مع عدو لا يقيم وزناً لأي مبادئ أو مواثيق أو عهود، كما يتسلح بها عامة أبناء القطاع المحاصر حين يشعرون بأن هنالك من يقف إلى جانبهم محاولاً دفع الظلم والعدوان عنهم.
بالطبع، تحتاج غزة لمواقف سعيد وكافة أبناء الشعب التونسي العظيم، كما تحتاج إلى مواقف مشابهة من أشقائها في بقية الأقطار العربية والإسلامية دون استثناء، كحاجتها كذلك إلى مواقف أحرار العالم وأصحاب الضمائر الحية هنا وهناك، فقضيتها هي قضية حرية وكرامة إنسانية تتجاوز حدود القطاع الصغير المحاصر.
غزة اليوم هي إحدى "رمزيات" القضية الفلسطينية التي تقاوم محاولات محو الكيان الوطني، وطمس الهوية، وتصفية القضية، إلى جانب رمزيات أخرى كالقدس والمقدسات، والضفة والاستيطان، واللاجئين وحقهم في العودة، والأسرى ومعاناتهم خلف القضبان، وغيرها من الرمزيات، التي تخوض كل منها معركتها الصعبة مع الاحتلال، والتي ستكون، بلا شك، الأصعب على الإطلاق إذا ما تخلى عنها الأخ والشقيق والصديق، ورضي أن يلغي عقله وفطرته السليمة، ويبيع روحه بثمن بخس.