العدوان الوحشي الذي شنته (إسرائيل) على قطاع غزة فجر الثلاثاء الماضي باغتيال بهاء أبو العطا، القائد في «الجهاد الإسلامي» ومحاولة اغتيال قيادي آخر في دمشق، وما تبع ذلك من عمليات قصف وتدمير راح ضحيتها ٣٤ شهيدًا بينهم أطفال ونساء، ثم ما تلا التوصل إلى وقف النار من تفاخر مسؤولين إسرائيليين ومحللين ووسائل إعلام إسرائيلية من أن الاحتلال نجح في هذا العدوان في تحييد حركة «حماس» التي كما ذكرت المصادر لم تشارك الجهاد في الرد على هذا العدوان إلى درجة ذهاب بعضهم إلى القول إن هناك «مصلحة مشتركة لـ(إسرائيل) وحماس» في منع التصعيد وإضعاف الجهاد الإسلامي، وهي نفس الأسطوانة التي رددها من قبل مسؤولون إسرائيليون من أن لـ(إسرائيل) مصلحة واضحة في تكريس الانقسام بين الضفة والقطاع، كل ذلك يجب أن يدفع الساحة الفلسطينية، سلطة وفصائل على اختلافها إلى استخلاص الدروس والعبر من جهة وإلى مخرجات تنهض بالواقع الفلسطيني المأساوي لتمكينه من مواجهة التحديات التي يفرضها الاحتلال.
ولأن السياسات الإسرائيلية المتبعة بحق قطاع غزة هي عدوان عسكري على غزة مرة كل عدة سنوات، على الفلسطينيين وضع برامج وسياسات (نضالية وسياسية) وحدوية تأخذ بالحسبان تقليل خسائر الشعب الفلسطيني قدر الإمكان استعدادًا للمواجهة المقبلة، بما في ذلك استغلال مبادرات وقف إطلاق النار، مثل المبادرة المصرية التي رفضت في بداية العدوان، وتمت الموافقة عليها في نهاية العدوان بعد أن تكبد الشعب الفلسطيني خسائر فادحة في الأنفس والممتلكات.
لا شك أن العدوان الإسرائيلي قد غير قواعد الاشتباك مع قطاع غزة، حيث لم يعد الهجوم على القطاع وقتل عدة آلاف من الفلسطينيين، ومن ثم التوصل إلى هدنة لحين العدوان القادم. ويعود الفضل في ذلك إلى تطوير وتغيير المقاومة الفلسطينية قواعد الاشتباك التي فرضتها (إسرائيل)، وإحلال قواعد اشتباك فلسطينية ستُؤخذ إسرائيليًّا بالحسبان في العدوان القادم الذي سيكون أشد وأعنف. ومن أهم هذه القواعد: تشويش حياة الإسرائيليين وإرباكها نتيجة قصف مختلف المدن الإسرائيلية، والمقاومة الميدانية المتمثلة بالأنفاق والكمائن.
في صراعها مع الفلسطينيين لم تعد (إسرائيل) تبحث عن نصر، فمهمتها الأساسية هي دفعهم إلى صراع مسلح خاصة في قطاع غزة مرة كل عدة سنوات، كلما اعتقدت أن الفلسطينيين تجرؤوا على تحديها بواسطة إطلاق الصواريخ. باحثة في ذلك عن وضع تردع فيه الفلسطينيين بواسطة القتل والتدمير الهائلين. وبما يشبه اجتياح لبنان (عملية الليطاني عام 1976 التي مهدت لحرب لبنان الأولى) وانتفاضة النفق (عام 1996 التي مهدت للانتفاضة الثانية). فتح العدوان الحالي الباب على مصراعيه لصراع وعدوان أوسع وأشمل من العدوان الحالي لتجرؤ الفلسطينيين على قتل 67 جنديًا وقصف المدن الإسرائيلية بالصواريخ. وفي المقابل، كان الدمار الهائل والقتل الممنهج الذي أحدثته آلة الدمار الإسرائيلية وسيلة لمنع المقاومة الفلسطينية من القول إنهم الطرف المنتصر، فاذا ما رجعنا فقليلًا للوراء نجد أن (إسرائيل) نفذت في أواخر عام 2005 انسحابًا أحاديَّ الجانب من قطاع غزة، متوجة بذلك سياسات هادفة للفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية سياسيًّا وعسكريًّا واجتماعيًّا وجغرافيًّا، مفضلة عليه مسارًا بطيئًا يدعو إلى تعميق تدخل مصر في شؤون قطاع غزة كمقدمة لإلحاقه بها، أو إيجاد رابط ما بين المنطقتين يعفي (إسرائيل) من مسؤولياتها الكاملة عن قطاع غزة ومشاكله. وبعد سيطرة حماس على السلطة بقطاع غزة عام 2007 توفرت الفرصة الكاملة لـ(إسرائيل) لممارسة سياستها وإجراءاتها بحق القطاع، كلما تجرأ على تحديها.
وفي السياق المذكور، جاءت عمليات القصف الإسرائيلي المتكرر لقطاع غزة منذ عام 2007م حتى يومنا هذا، شنت خلاله (إسرائيل) ثلاث عمليات عسكرية هي الرصاص المنصهر (2008) وعمود السحاب (2012) والجرف الصامد (2014) موقعة آلاف القتلى وبضع عشرات آلاف الجرحى، وتدمير البنى التحتية، وتخريب اقتصاد القطاع مرة كل عامين تقريبًا، وهذا العدوان الأخير سقط خلاله حتى هذه اللحظة 34 شهيدا ومئات الجرحى وتم تدمير عدد كبير من المنازل والأراضي الزراعية كما هو الحال في كل حرب نتيجة شدة القصف الجوي البري والبحري من قبل قوات الاحتلال.
وكان أسلوب القصف العشوائي والتدمير للمباني السكنية والبنية التحتية هو أحد الأساليب التي اتبعها الجيش الإسرائيلي بهدف خلق حالة تهجير جماعي داخل القطاع، ودفع هذه الجماهير للضغط على المقاومة من أجل وقف إطلاق النار. وسبق أن اتبع هذا الأسلوب في الحروب الإسرائيلية التي شنتها على جنوب لبنان وضد حزب الله.
طُبقت على قطاع غزة نظريتا قتال إسرائيليتان، الأولى: نظرية “الوعي والكي” التي وضعت بعد انتفاضة النفق عام 1996 في عهد رئيس الأركان الإسرائيلي السابق أمنون ليبكن شاحك وشارك فيها وزير الدفاع الحالي موشيه يعلون. وتقول النظرية إن الفلسطينيين وبعد تجرؤهم على الجيش الإسرائيلي وقتلهم 18 جنديًّا في يوم واحد، سيدفعون ثمنًا غاليًا بواسطة ضربهم بقوة شديدة جدًّا من دون دفعهم إلى الهزيمة لأنهم لا يملكون شيئًا يقدمونه مقابل هزيمتهم. ويتم الضرب بواسطة هجمات محدودة وغير شاملة هدفها إحداث تغيير استراتيجي على الأرض، وإيقاع خسائر فادحة في صفوفهم تردعهم حتى عن مجرد التفكير بمهاجمة (إسرائيل) مستقبلًا. وطبقت هذه النظرة في قطاع غزة بواسطة القصف والقتل الشامل لسكان القطاع خاصة الإبادة الجماعية للعائلات.
وفي الوقت نفسه، تتبنى حكومة الاحتلال إلى جانب نظرية “الوعي والكي” نظرية “جز العشب” التي وضعها بن غوريون عام 1950، التي تقول إن (إسرائيل) دولة صغيرة محاطة بعدد كبير من الأعداء سيواصلون عداءهم لها في العقود القادمة، ولأن (إسرائيل) دولة صغيرة من حيث المساحة والسكان، فإنها لن تستطيع فرض السلام على العرب أو حسم المعركة معهم مرة واحدة، وبالتالي فإن أفضل طريقة للبقاء هي المحافظة على قدرة الردع أمام العرب بواسطة إلحاق الأذى الكبير في صفوفهم، بهدف تثبيط معنوياتهم كي تطول فترة الهدوء القادمة.
ولتطبيق النظريات المذكورة جندت (إسرائيل) 82 ألف جندي خاصة من أسلحة المشاة مثل: ألوية الناحل وغولاني وغفعاتي والوحدات الخاصة مثل دورية الأركان ومجيلان وشييطت التابعة لسلاح البحرية.
وفي المقابل لم يملك الفلسطينيون نظرية قتالية محددة وتركز جهدهم الأساسي في الأنفاق الهجومية التي دمر الجيش الإسرائيلي 34 منها، وأوقعت عددًا من القتلى والأسرى الإسرائيليين، وعلى الكمائن وبعض المواجهات المباشرة. ولم تقتصر المواجهة على حركتي حماس والجهاد الإسلامي فقط، بل شاركت فيها كل الفصائل الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير، بما في ذلك كتائب الأقصى وغيرهم من المقاتلين التابعين لحركة فتح وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى.
لقد لاحظ الجميع صمتًا عربيًّا ودوليًّا مريبًا إزاء هذا العدوان الإسرائيلي باستثناء بيانات إدانة صدرت عن عاصمتين عربيتين أو ثلاث، في حين أعلنت أكثر من عاصمة غربية خاصة واشنطن عن دعمها لـ(إسرائيل) فيما وصفته حقها بالدفاع عن النفس، علما أن مشاهد الشهداء من الأطفال والنساء من جراء عمليات القصف الإسرائيلي المتعمدة، تهتز لها المشاعر الإنسانية ولا يمكن لكل ذي ضمير إنساني حي إلا أن يدين هذه الأفعال الإسرائيلية.
أثبتت الحرب في غزة فشل وضعف وعجز النظام العربي الرسمي وقوى الاعتدال وما يسمى بتيار الممانعة أو المقاومة من القيام بأعمال من شأنها التخفيف من القتل والدمار الذي يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة، كما أثبتت هذه الحرب أن القانون والشرعية الدولية هي قوانين تطبق على الأطراف والشعوب الضعيفة فقط. كما تبين لكل المعنيين في الصراع أن الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة لا ترغب بممارسة الضغوط من أجل إيجاد حل شامل ودائم للقضية الفلسطينية، مفضلة عليه دعم وإمداد (إسرائيل) بالسلاح لتمعن في قتل الفلسطينيين والعرب.