يُحكى أنه في زمن قريب من هذه الأيام كانت هناك دولة هي الدولة الأعظم تسلحا والأكثر تطورا في تكنولوجيا القتل والدمار، ويحكى أن هذه الدولة أيضًا كانت تنكشف على الملأ وأمام العالم أجمع بأنها الأعظم سخفا وتفاهة ووضاعة، الأسفه أخلاقا والأسفل قيما والأحقر والأنذل إنسانية، وقد كان العالم أجمع يشاهدها وهي تخترق كل ما تعارف عليه البشر وتمارس ساديتها تحت نظر الناس والأمم، وقد كانت تمارس إجرامها علانية وبشكل مركب من عدة جرائم في جريمة واحدة ثلاثية الأبعاد:
الجريمة الأولى أنها قامت بعملية تطهير عرقي ومجازر وتهجير للناس بعد أن تم طردهم من مدنهم وقراهم التي احتلوها وأقاموا دولتهم عليها قبل ما يقارب سبعين عاما. ثم جاؤوا بهم إلى قطاع ساحلي ضيق بظروف معيشية صعبة وقاسية شكلت أعلى كثافة سكانية في العالم.
الجريمة الثانية: حاصروهم حصارا لئيما ضربوه على هذا القطاع، جعلوه سجنا لساكنيه وأحاطوا بحره وبره من كل الجهات، فكان بمثابة عقوبات جماعية تنتهك كل حقوق الإنسان وتضرب الضمير العالمي وتهزّه من أعماقه دون أن يكترث بهم أحد ودون أن يجدوا سندا من قريب أو بعيد إلا القليل القليل.
أما الجريمة الثالثة فهم لم يكتفوا بما فعلوا في الجريمتين اللتين سبقتا وإنما أتبعوهما بالملاحقات الساخنة: يجوبون سماءهم كما يحلو لهم، يغلقون عليهم معابرهم وصلتهم بالعالم الخارجي، يلوثون مياهههم ويتحكمون في أرزاقهم ويصبون عليهم خالص لعناتهم.
انتفض هذا الشعب المسفوح دمه على مذبح حريته، اتخذ وسائل سلمية بداية الطريق دون أن تجدي نفعا، ثم راح يبحث عن أسلحة محاولًا وقف عربدة هذا العدو الحقير والحد من شهوته للدم والقتل، بدا بداية الأمر احتلالا رخيصا لا يكلف شيئا ثم بدأ يدفع ثمن ظلمه، أخذت صورته التي يحاول رسمها بأكاذيبه التي لا حدود لها تتكشّف شيئا فشيئا وتتآكل يوما بعد يوم.
ثم إن هناك مجموعات من الثائرين تشكّلت وثارت على ظلمه باستخدام الرصاص ردّا على قذائفه وصواريخه، ثمة هناك خسائر لهذا الاحتلال أصبحت تتزايد يوما بعد يوم وأصبح يتحوّل من احتلال لا يكلّف صاحبه شيئا إلى احتلال مكلف يدفع من أرواح جنوده عدا عن التكلفة المادية الباهظة. أصبحت تكلفة طفل الروضة مثلا من مستوطناتهم هناك في نقله وحراسته إلى روضته يكلف الدولة خمسة آلاف دولار يوميا، أصبحت حجم الخسائر تتضاعف، المادية منها والبشرية.
تضاعفت المقاومة وضاعفت جهودها وأصبح هذا الاحتلال لا يحتمل الخسارة فقرَّر الانسحاب والفرار بجيشه وعتاده ومستوطناته واستبدل الاحتلال المباشر بالحصار الخانق الذي أسلفنا الحديث عنه، راهن على هذا الحصار طويلا وبات يضرب ضرباته جوًّا وبحرًا من خلال صواريخ ماحقة للبشر والشجر والحجر، لم يستسلم ولم يتراجع الثوار بل راحوا يطورون من إمكاناتهم للوصول إلى أهداف في عمق هذا الذي يلاحقهم بأعتى الصواريخ والقاذفات، وبإمكانات محلية نجحوا في تصنيع صواريخ خاصة بهم تحقق هدفهم وتؤلم عدوّهم، أصبح الألم متبادلًا وردع هذا العدو وضرب غطرسته في عمقها أمرًا ممكنًا.
وبين الحين والآخر تقوم هذه الدولة بالهروب من أزماتها الداخلية فترتكب جريمة كاغتيال أو قصف بيوت آمنة أو ضرب مقرات عامة ظانة بنفسها أنها من تمتلك الردع والبطش وإثبات الذات في قوة قهرها وجبروتها، فتفاجئها الحركات المجاهدة الثائرة بالردع الكافي لكبح جماحهم ولجم كبريائهم، جربت معهم الحروب الشاملة فارتدت على أعقابها خاسرة دون أن تصل لأي هدف من أهدافهم العاتية.
وهي ما زالت تجرب حظها في جولات دامية من حين لآخر فتقع في خيبة تلو الخيبة، ترى نفسها ضبعًا ضاريًا وتحلم بقطيع من الأرانب الضالة لتجد نفسها أمام عرين من الأسود التي لا تخشى في الله لومة لائم ويكون الموت في عيونهم والحياة سواسية. أصبح هذا القطاع السكاني المحاصر من الأصدقاء والأعداء شوكة في حلوقهم وخنجرا داميا في خاصرتهم.
لقد عجزوا عن وقف الألم ولم يعد لهم بدّ من التكيّف مع معادلة الردع المتبادلة، هم يملكون قدرات عسكرية عاتية لا تقارن مع قدرات هذا القطاع، ولكن القطاع يملك قدرة عالية على احتمال الألم لا تقارن مع قدرات هذا الكيان الذي سرعان ما يتهاوى معنويًّا ونفسيًّا بقدرة منخفضة على احتمال الألم.
القطاع ينتصر أخلاقيا ويرتفع إنسانيا بينما تتآكل وتنعكس صورة الاحتلال بأبشها صورة وأركسها ظلما وطغيانا. هي فقط مسألة وقت لأن خواءه الأخلاقي والإنساني مقدمة لازمة لانهياره التام، هي سنن التاريخ في الأمم الطاغية، ينتظر فقط فتح الجبهات كلها عليه دفعة واحدة في معركة فاصلة تضع حدا لهذه الحكاية، حكايته مع الصواريخ والطائرات المسيّرة التي تُصنع بأيدٍ طاهرة.