الساعة العاشرة مساءً، في الخارج طائرات الاحتلال الإسرائيلي تواصل قصفها، صوت رنين الهاتف يفزع المواطن منير زعرب ويوقظه من نومه قبل أن يبدأ حديثه مع متصل لغته العربية "مكسرة": "معك المخابرات الإسرائيلية" يهدده: "اخلِ البيت في غضونخمس دقائق.. وإياك إغلاق الجوال".
زوجته التي تتابع مع بعض الأبناء شاشة التلفاز انتبهت لتغير ملامح زوجها، وكأن الكلام تجمد في عروقه، لثوانٍ ظلّ شاردا.. تجاهل كل نداءاتها للاستفسار عما يجري، قبل أن يشير لها بيده، لم تفهم إشارته ولا همهمته بصوت خافت.. "انهضي"، حتى سمعت ابنته التي قربت أذنيها من سماعة الجوال كلام الضابط الذي كرّره مرة أخرى، كلمات كانت كفيلة بإثارة الذعر بين أبنائه التسعة.. أيقظ أطفاله الصغار من نومهم، والجميع بدأ يخرج من المنزل الواقع غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.
سار منير وزوجته عدة أمتار، التفتت الأم إلى ابنتها تسألها: "وين أختك هديل؟"، تذكرت هي الأخرى أن أختها لا زالت بغرفتها.. بينما طائرات الاستطلاع تستعد لقصف البيت، المنطقة أصبحت خالية من أي حركة، والسكون يخيم على المكان، تضع يدها على كتف زوجها، قلبها يكاد ينفجر من القلق يجتاح تفكيرها أسئلة عديدة..
تخبره بصوت ممزوج بالخوف: "هديل بالدار.. عندهم ضربوا الدار".
منير لضابط المخابرات الإسرائيلية الذي يستمع على الهاتف: "أبنائي في المنزل"، والأخير مكتفٍ بالمهلة الأولى: "أخرجهم بسرعة سنقصف المنزل بعد لحظات".
في آخر اللحظات، خرجت هديل ابنة الثامنة والعشرين عاما من باب المنزل.. الخمس دقائق شارفت على الانتهاء، ابتعد الجميع لمسافة 300 متر، سقط الصاروخ الحربي الأول من طائرة "دون طيار"، أمام أعين أفراد العائلة.
صوت من الخارج يخترق نافذة منزل عائلة شحادة زعرب (56 عاما) الذي لا يبعد بيته المسقوف بالإسبست أكثر من 70 مترا عن بيت جاره منير، يفزع من بداخله: "اطلعوا من دوركم.. بسرعة"، فتح زعرب باب منزله يسأل أحدهم: "ماذا يجري؟"، فرد عليه: "بدهم يقصفوا بيت منير".
بالنسبة لهذا الجار، كان النداء متأخّرًا، فلم يستطع إخلاء أبنائه العشرة، ولم يستطع إخلاء منزل ابنه سالم الذي يجاوره، ولديه تسعة أفراد آخرين، لكن كان الوقت متأخرا، أجبرت العائلتين أن تعيش مشاهد مرعبة ولحظات صعبة أثناء القصف.
"إيش عملنا ليش بدهم يدمروه".. تسأله زوجة منير قبل أن تجيبها الطائرات الحربية الإسرائيلية بتدمير منزلهم المكون من ثلاثة طوابق.
مرت دقيقة أخرى، انقشع الغبار، فتحمنير وأسرته عيونهم التي أغلقها صوت الصواريخ التي هزت مشهد الرؤية أمامهم بعدما افتعلت وميضا حجب رؤيتها؛ حتى وجد منزله المكون من ثلاثة طوابق، مدمرا بالكامل. سالت الدموع من عيون زوجته وأطفاله تبعتها أخريات، راسمة فصلا جديدا من فصول الوجع والتشرد.
حكاية الألم كانت شاهدة على معاناة تسعة أفراد يعيشون في منزل يشهد كل ركن فيه على حلم بني بتعب السنين حجرا فوق حجر، وعلى صور وذكريات وكتب مدرسية وألعاب أطفال، وأيام خلت، تطايرت مع الركام، ولم يبق إلا صورة لمنزلهم الذي انتهوا من طلاء واجهته الخارجية باللون الأبيض وإطار أحمر، سيبقى يذكرهم باللحظات الجميلة التي قتلتها الصواريخ الإسرائيلية.
مشهد مرعب
يعيش شحادة زعرب المشهد من جديد: "حينما قصف منزل منير، رأينا وميضا وصوتا مرعبا اهتز المنزل منه كزلزال، صاحبه بكاء الأطفال والنساء لم نملك سوى الدعاء بأن يسلمنا الله من هذه اللحظات الصعبة".
لا زال يروي ما عاشه: "لم نستطع الخروج من المنزل، كيف سنخلي 20 فردا في دقائق؟ لقد رأينا الموت أمامنا، بعد أن تطاير الردم علينا، وتكسرت ألواح "الإسبست".
بعد أول ليلة قضاها من دون مأوى، استيقظت عائلة منير بعد أن أشرقت شمس الحزن على قلوبهم وهم يبحثون بين الركام عن ذكرى أو شيء يحتفظون به، لكنهم لم يجدوا شيئا، سوى دموع تواسي جراح قلوبهم، وحجارة لم يعد يرفع هامتها سقف يأويهم،يلتحفون السماء دون مأوى.
يحرر منير زعرب كلماته المخنوقة بالقهر وصوت حزين في حديثه لصحيفة "فلسطين": "لم نهنأ على منزلنا، فلم تمر عشرة أيام قبل طلاء واجهته الخارجية حتى يحمينا من مياه الأمطار التي تغرقنا كل عام (..) في لحظة تغيرت حياتنا أصبحنا مشردين بعد عشر سنوات من بناء المنزل".
كانت تستعد العائلة لإقامة أول حفل زفاف لابنها البكر بعدما تنتهي من تشييد شقته، لكن طائرات الاحتلال أفسدت هذا الترتيب وأعادتهم إلى "نقطة الصفر" كما تصف زوجته، التي لا زالت مصدومة مما ألم بهم: "لم أكن أتوقع مطلقا أن نستهدف فزوجي مزارع.. لحظة التهديد بالقصف كان المشهد مرعبا، خشيت أن أفقد ابنتي هديل مع فقدان المنزل، بحثت عن كتب أطفالي المدرسية، عن أي شيء لكن لم ننتشل إلا ملابس وكتب وألعاب ممزقة من تحت الركام".
"شقى عمرنا راح وكل ما نملك حطينا بالبيت".. يقطر الحزن من صوتها. ترثي حالها: "الآن قاعدين على الركام مش عارفين وين نروح؟".
بدون دخل
مع إشراقة الصباح ذاته، هاتف المزارع راضي زرقة (55 عاما) يرن، على عجل رد على المتصل: "تعالوا شوفوا حمامكم.. المنطقة انقصفت"، أنهى المتصل المكالمة ترك كل شيء بيده، اصطحب زوجته التي تشاركه أعمال الزراعة يوميا، حتى وصلا المكان المدمر.
تذرف زوجته دموع الحسرة، على أطلال ما تبقى من الحمام الزراعي: "لم يبق أي شيء، لقد تدمر من أثر استهداف منزل جارنا (..) زرعناه بالطماطم وحصدناه مرتين، كان يعيل 12 فردا ومصدر دخلنا الوحيد، كل يوم كنت أشارك زوجي وأساعده في الزراعة".
"الآن أصبحنا بدون دخل.. كل شيء تدمر"، سكت صوتها لكن بقيت دموعها تكمل "رواية الحكاية".