بعد الانتصار الذي حققته هبة اللبدي، علينا إعادة النظر في بعض العبارات التي اعتدنا عليها فإذا أردنا أن نمتدح امراة قلنا أخت الرجال، وإذا أردنا امتداح الإرادة قلنا إرادة الرجال، وإذا أردنا أن نجيّش النخوة قلنا: أيها الرجال الرجال، يا رجال الوطن .... الخ، اليوم مع اضافة هذا الانتصار لصالح المرأة من الممكن مثلا أن نمتدح رجلًا فنقول له: أخو النساء؟؟ وهل من الممكن إذا أردنا أن نمتدح ونشيد بالإرادة القوية فنقول إرادة النساء؟؟ ما حققته هبة اللبدي قلب المعادلة.
ولقد رأينا نماذج مثلها حفرت عميقًا في الذاكرة الفلسطينية، فعلى سبيل المثال لا الحصر أعادتنا هبة إلى هذه البطولة التي عجز عنها الرجال ، فبعد تسوية أوسلو نجحت سلطات الاحتلال في تجزئة إفراجات الأسرى وتصنيفهم وفق اعتبارات إسرائيلية ما أنزل الله بها من سلطان، فقادة الاحتلال الغارقين في دمائنا جاؤوا بوصف لأسرى: "أيديهم ملطخة بالدماء " وحجروا الافراج عنهم ، صنّفوا كما يحلو لهم وفرضوا توقيع وثيقة لمن قرروا الافراج عنهم وابتزّوا بطرق جهنمية جعلت من الاسرى والافراج عنهم مأساة جديدة فوق مأساتهم ، بينما الأسيرات رفضن هذه الطرق جملة وتفصيلا واتخذن القرار إما الافراج عنا جميعا دفعة واحدة أو أن نبقى في السجن، وصمدن على هذا القرار سنة كاملة من الحرب النفسية على من أصدر القرار بالافراج عنهن، وكانت الواحدة منهن مفتاح سجنها بيدها والولوج من السجن المرير لهواء الحرية العليل كان بكلمة منها، بعد سنة كاملة سجّلن انتصارا وخرجن كلهن دفعة واحدة، فعلن ما لم يستطع فعله الأسرى الرجال. فلا تقولوا للواحدة منهن يا اخت الرجال !!
المثل الشعبي: "كالذي يريد أن يلتقط إبرة من كومة قش" يقال عندما يستحيل تحقيق المراد ، فأن تجد فتاة في مواجهة دولة ثم لا تستطيع الدولة أن تصل الى مرادها بعد أن تستخدم كل قسوة لديها وكل أدواتها وأساليبها الاجرامية ، تمكنت هبة بداية من مواجهة أساليبهم القذرة بكل قوة وعصامية وثبات ، لم تنبس ببنت شفة عن أي شيء يجول في صدرها ، حافظت على أن يبقى صدرها الحرّ مقبرة للاسرار ، ثم ما لبثت أن فضحتهم ونشرت كل ممارساتهم الدنيئة على الملأ ، وعندما استيأسوا منها وحوّلوها الى مشنقة الاعتقال الاداري ولفّوا حبله على رقبتها وما بقي عليهم سوى دفع الكرسي بأرجلهم ليعلنوا ضمّها الى مدافن الاحياء في غياهب سجونهم، فاذا بها تنجح بوضعهم هم في مشنقة التاريخ وتنجح في دفع الكرسي الذي ترتكز عليه أرجل دولتهم الهشّة من مزاعم ان لديهم اخلاقا أو حقوق انسان أو دولة مدنية او عدالة أو أي شيء شبيه بدول هذا العصر، دفعت الكرسي بقدمها الصغيرة فتأرجح هذا الكيان المسخ وبدا حاسرا مفضوحا أمام الخلائق أجمعين .
اثنان وأربعين يوما، تخوض اضرابا مفتوحا عن الطعام في زنزانة وحدها وفي مواجهة أعتى الحروب النفسية التي تشنها دولة على فتاة تقف وحدها في صحرائهم القاحلة، وحدها تفترش الثرى وتلتحف الثريا، تقف على أرض خصبة وتعانق السماء وتواجه ذئابًا خبيثة في تلك الصحاري القاحلة من كل نبض ضمير أو روح انسانية.
لقد انتزعت الإبرة التي هي بمثابة كلمة السرّ من كومة الاكاذيب الهائلة بعد أن حوّلته الى هشيم تذروه رياح الحق الذي تمثلة بارادتها العظيمة وقوة بنيان ارادتها الفذّة. لا شك أن كلمة السرّ هي إيمان وقضية وشخصية قوية غير مقتصرة على رجال دون النساء أو نساء دون الرجال ، إنما هي لمن عشق الحرية ورواها بتربية عزيزة قوية ثم قرّر دخول المعركة .