كانت نخلة عسقلان أنيسًا جميلًا لنزلاء ذاك الفندق القاسي قساوة سجّانيه، ارتوى من الماضي السحيق وكأنه قد شرب مياه المتوسط من زاويته الجنوبية الشرقية، نزلاؤه قد أُكرهوا على أن يرابطوا طويلًا في هذا الثغر، وكانت النخلة لهم مثالًا شامخًا باسقًا يُظلِّل أرواحهم بما شهدته أيامها المديدة على هذه الأرض، كانت تبدو بتاريخ لا بداية له، قشورها السمراء العتيقة تحمل في ثناياها حكايات قرون طويلة، تواجه رياح الغرب العاتية وتستمسك بأرضها التي رسخت فيها جذورها، حفيفها ربيعًا وصيفًا يناجي أسرانا ويبث لهم حنينًا سخيًّا رخيًّا ناعمًا، في الخريف والشتاء تعلن الغضب فتشتم السجان كل دقيقة ألف مرَّة، تقف في وجه رياح البحر العاتية وكأنها تمنعها من أن تمسَّ أسرانا بأذى، تنافح بكل ما أوتيت من قوّة وتنازع شرّهم بإرادة لا تلين ولا تستكين، أسرانا يستمدّون من شموخها وكبريائها مزيدًا من النخوة العالية، روحهم تجد نفسها معلقة بروح هذه النخلة السامية، تجود عليهم ويجودون عليها فكانوا معها روحًا واحدة، وشكلوا معًا تظاهرة كونية تظهر نشاز ذاك العدو المتربص بهما والذي لا يروق له إلا أن يصب عليهم أذاه وشرره المستطير.
في ذات ليلة من ليالي الظالمين الحالكة حيث استعر الحقد في صدورهم وأخرجوا كل ما فيها من سواد، تقاطر صديد قلوبهم واتخذوا قرارًا أرادوا به الشماتة وإغاظة قلوب عشّاق كل من رام أن يكون ساميًا سموّ هذه النخلة، جاؤوا بمناشيرهم وتجلّت جريمتهم النكراء بقصّ جذع هذه الشجرة، كيف هي قلوبهم التي لا تحسّ ولا تسمع أنين هذا الجذع وكيف لا ينظرون إلى تاريخ وماضٍ شكلت هذه الشجرة ملاكًا فيه، لم تشفع لهم عراقتها ولا شواهد على عصور خلت وأمم قد سكنتها وتنعمت بظلها وروعة ثمرها، كانت قلوبهم أقسى من نصل المنشار الذي حملته أيديهم المجرمة، وكانت نفوسهم أعظم إجرامًا من هذا النصل الذي سرى في جسدها. لقد نجحوا في قصّ الجذع ولكنهم فشلوا فشلًا ذريعًا في اجتثاث الجذور، لم يسعفهم غباؤهم ولا جريمة اللحظة أن يروا أن هناك جذورًا تحت الأرض لا تراها عيونهم التي لا تقرأ التاريخ ولا تدرك معادلاته التي لا تخطئ أبدًا.
نائل البرغوثي عندما يغيبونه في غياهب سجونهم يبرهنون فشلهم الذريع في اجتثاث جذوره، ولا يسعفهم غباؤهم ولا جريمتهم التي تعميهم عن قراءة التاريخ وإدراك معادلاته التي لا تخطئ أبدًا.
لقد شكل نائل البرغوثي مثالًا رائعًا مثل هذه الشجرة، في نفسه الجبارة وقلبه الفسيح وجذوره الراسية وجبهته السامقة، كان ظلًّا ظليلًا لأرواح جميلة تشكلت من الآلاف المؤلفة التي عايشت سجن عسقلان وبقية منازل الموت التي نشرها المحتل في ربوع فلسطين، كلّ أسير ينظر إلى نائل كما ينظر إلى تلك النخلة العسقلانية الباسقة، يجد فيهما التاريخ بعنفوانه ورسالته الحضارية العالية، يجد فيهما كل القيم الإنسانية السامية، يجد الحرية بقممهما الرفيعة ويجد الكرامة بروحهما النديّة الباهية، يجد الصبر والصدق والمحبة وكل المشاعر البشرية بضيائها الزاهية، يجد فيهما القضية وفلسطين بكل ألوانها الساحرة.
نائل قضية كما وصف كنفاني إنسانه العظيم، لم تنفصل أي عروة من عرى التحامه بالقضية منذ اللحظة الأولى التي مُدتّ جذوره فيها إلى اليوم حيث الأربعون سنة، ما زال راسخًا شامخًا كتلكم النخلة العسقلانية، ما الذي يميزه عنها هو؟ أنهم استطاعوا أن يُعملوا نصالهم في جذرها في حين جذر نائل أقوى من كل نصالهم، ما زالت كفّه تناطح مخرزهم فتزيدهم خبالًا وإمعانًا في جني حصاد جرائمهم، ما زالت المدرسة العسقلانية لنائل مشرعة الأبواب، وما زالت تخرّج الأبطال ومعقلًا لصناعة الأحرار، لقد أخرجت لهم نورًا يبدد عتمة ظلمهم ونارًا تحرق ساديّتهم، خرجت لهم صالح وعاصم من ذات الشجرة العسقلانية والمئات ممن ينتسبون لذات المدرسة.
نائل كتلكم الشجرة التي ناجاها وناجته عشرات السنين، فهم لغتها وفهمت لغته، مدت جذورها عميقًا لأنها تدرك خطرهم المستطير على جمال شهودها وثمار منتوجها فوق الأرض، ونائل أيضا مدَّ جذوره عميقًا لأنه يدرك أيضا أن هذا المحتل لا يروق له أن يرى نائل بجمال شهوده على هذه الفلسطين ولا يروق له أن يرى عظمة الثمر لهذا النائل، وطالما أنهم لا يصلون ولا يتمكنون من الجذور فلن يكون لهم مستقبل على هذه الأرض ذات الجذور الراسية، هم لا تاريخ لهم ولا حاضر يقيم لهم استقرارًا ولا مستقبل يلوذون إليه إذا عصف بهم التاريخ عدالته.
نائل اليوم مع دخوله الأربعين سنة في منازل الأموات هو حيّ يرزق وهو بحياته ذات الجذور العميقة يمدّنا بالحياة، نائل وشجرة عسقلان يقولان اليوم:
- لا عذر لأحد بعد دخول نائل الأربعين، لا عذر لمن يهربون من سطوة الجلاد ليلعبوا دور الضحية فيتماهوا فيها دون أن تكون لهم عزَّة تنتفض في جوانحهم.
- لا عذر اليوم لمن قال عن نفسه إنه قضية ألَّا ينتصر لتلك الجذور العميقة، لا عذر لمن لا يرى جذوره الراسخة، لا عذر لمن لا يريد لها أن تنبت جذورها فوق الأرض وأن تخرج للناس ثمارها.
- لا عذر اليوم لمن ينام طويلًا وأنَّات سامر عربيد تعلو فوق رؤوس الجميع، لا عذر اليوم لمن يصمت ودوي الأمعاء الخاوية يصخ كل أذن حرة أبية.
- لا عذر اليوم لمن لا يتلقى درس الشجرتين العسقلانية والكوبرية والتي ملأت العالمين برسائلها الثورية النقية.
- لا عذر اليوم لكل من كان له جذر أو ألقى السمع لكل هذه الجذور الراسخة.
إلا من يبلغ عنا: شجرة عسقلان ونائل بأن رسائلكم قد وصلت وبانت بيان الشمس الساطعة.