الغربة نوعان؛ غربة زمانية، وهي غربة يعاني منها كبار السن والحكماء، أما الغربة المكانية، فهي شقان، شق له علاقة بالابتعاد الجسدي عن الأوطان، والعيش في الخارج، وغربة لها علاقة بالعيش داخل الوطن، ولكن دون التفاعل والتعايش والتفاهم مع المحيط، وهذه غربة مكانية قاسية، يعاني منها شباب الوطن العربي جلهم، رغم إقامتهم في أوطانهم، ولاسيما أولئك الذين لا يجدون عملاً ولا أملاً ولا مستقبلاً، إنهم غرباء في أوطانهم ووسط أهلهم، وحالهم كحال الشعب العربي التونسي قبل انتخابات الرئاسة الأخيرة، حين كان المواطن التونسي تائهاً غربياً يائساً، لينقلب كل هذا البؤس والضياع التونسي إلى انتماء وولاء ووفاء مع نتائج انتخابات الرئاسة التي توجت قيس بن سعيد رئيساً على قلوب التونسيين.
تونس عادت إلى تاريخها ووطنها ودينها وروحها الإبداعية مع نتائج انتخابات الرئاسة، وقد حدثنا الكاتب أحمد الزعبي رئيس تحرير موقع سواليف الأردني، والذي زار تونس قبل أيام فقال: تونس تتقدّم، فعندما يطلب رئيس الجمهورية من زوجته القاضي السيدة التونسية المتواضعة بنت الشعب إشراق شبيل أن تأخذ إجازة بدون راتب لمدة خمس سنوات من القضاء، كي لا يقع ولا تقع بالحرج كون زوجها رئيساً للجمهورية، وكي لا يحسب في يوم من الأيام أن تضارباً في المصالح قد حدث في إحدى محاكم الدولة ولو من باب الوشاية، لتعلن هذه السيدة منذ يوم التنصيب أنها ستكون خادمة تونس الأولى، لا سيدة تونس الأولى!
تونس تتقدم مع إقدام الشباب التونسي على حملات تنظيف شوارع وحواري تونس من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، والشباب التونسي الذي عاد له وطنه صار يقود المبادرات التطوعية؛ بعد أن كان محبطاً من التغيير قبل شهرين، وكان يعاني من البطالة والفراغ والرغبة في ركوب موج المتوسط هروباً من تونس، هذا التونسي صار يهتف للوطن كل مساء.
مشهد إبداعي ما كان ليتحقق لأهل تونس إلا بعد أن اكتشفوا شخصيتهم، وأكدوا ذاتهم الوطنية، حين انتخبوا رئيسهم، فصارت تونس لهم، وصاروا ينتمون لها، ويعيشون واقعها، ويلتصقون بترابها، لأنهم لم يعودوا غرباء في أوطانهم، فهم الوطن، وهم الرئاسة، وهم المستقبل، وهم الأمل، والانتماء والولاء والصدق والعطاء.
تجربة تونس الديمقراطية أمنية كل عربي، وأمل كل فلسطيني، حين يقف أمام الصندوق لينتخب الرئيس، ويفتخر بينه وبين نفسه أنه من سيقرر أن يكون هذا الشخص هو الرئيس، ولم يفرض عليه أحد شخص الرئيس، ولم تكن الموافقة الأمريكية والإسرائيلية شرطاً لوجود الرئيس، ولم تكن جامعة الدول العربية هي التي وظفت الرئيس، وقتها تموت الغربة المكانية، وتنسحق الغربة الزمانة، ويحيا الانتماء في الصدور التي جففها الجفاء والغباء والرياء، ويصير الوطن بحجم المحبة والتسامح، وتصير فلسطين امرأة تقسم بطهارتها أنها لم تكن عاقراً، وأن رحم نسائها لا يقل كفاءة عن رحم نساء تونس التي انجبت الرئيس التونسي قيس بن سعيد، رحم المرأة الفلسطينية قادر على الإخصاب والإنجاب، وقادر على العطاء، وقادر على تقديم الكفاءات والقدرات والطاقات التي تعزز الولاء والانتماء لهذا التراب الذي نقش على نتوء الصخر جملة: نحبك يا وطني نظيفاً من الشوائب والأحقاد، خالياً من التسلط والأصفاد.