القضية الفلسطينية كقضية سيدنا يونس عليه السلام؛ وقعت في ظلمات ثلاث، عندما استقر به المقام في بطن الحوت كانت قضيته المركزية: الخلاص والتحرر من هذا الحال، ضاقت واستحكمت حلقاتها وكانت ظلمات ثلاث: ظلمة البحر العميق وظلمة الليل وظلمة جوف الحوت، كل واحدة منها كافية لظلمة تُحكم سيطرتها على قلب هذا الضعيف فكيف باجتماع الثلاث، لا ناصر ولا قريب ولا مغيث ولا ضجيج إعلامي ولا مسيرات جماهيرية ولا نت ولا "جي بي اس" يحدد مكان التيه والغرق في هذه الظلمات.
والقضية الفلسطينية تمر في أشد ظروفها حلكة، عندما احتلت فلسطين وغزتها العصابات الصهيونية كنا في ظلمات ثلاث: محليًّا غارقون في التخلف والجهل والغباء السياسي بحيث لم نكن ندرك حجم المكر الذي يُمكر لفلسطين، كان الظلام حالكًا محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وما زلنا إلى اليوم غارقون في ظلمات ثلاث مع اختلاف شكلها، اليوم عندنا ظلام الانقسام والفرقة وغياب برنامج التحرر الذي تتفق عليه القوى الفلسطينية، وعندنا ظلام الواقع العربي، الأنظمة الفاسدة الغارقة في قهر وظلم شعوبها والمحترفة في تهميش قضايا الأمة وقضيتها المركزية فلسطين إلى ظلام التطبيع لدرجة تكون فيها أقرب إلى عدو الأمة من قربها من القضية الفلسطينية، وهناك البعد الدولي وانحياز قوى الاستكبار العالمية إلى الاحتلال الصهيوني بشكل كامل.
القضية الأولى قضية سيدنا يونس وبطن الحوت حيث بدأ بتحرير ذاته من كل ما علق بها وهذا يعني أنها لن تعتمد على أحد إلا الله وهذا بالمفهوم السياسي الواقعي اليوم يعني الاعتماد على الذات وجعلها حجر الأساس في عملية التحرير، الذات المتحررة من كل شيء ولا تعتمد إلا على ذاتها.
وجاء النموذج اللبناني المقاوم الحرّ الذي لم يستجب لتداعيات الواقع العربي المأزوم، قلب معادلة الخوف وحسابات الخشية من أمريكا وإسرائيل، أجبر جيش الاحتلال الذي لا يُقهر من الفرار من لبنان وقهره عام ألفين في حالة هروب وهزيمة سمّاها الغسق، وهي أشد ساعات الليل حلكة، انقلبت المعادلة وأصبح هذا الذي يخشاه العرب وهو الذي أغرقهم في ظلمات الخوف والرعب منه من قبل، هو غارق في ظلام ومستتر بهزيمته النكراء، ما السرّ؟ بكل بساطة تحرروا من أن يقولوا له "سبحانك" كالذين رضوا به ربًّا ومهيمنًا على المنطقة، فقط قالوها للمعبود الحق، وجاءت حرب 2006 ليعكسوا المقولة التي تعودناها: "وينكم يا عرب" قالوا: لا نريد دعمكم فقط التزموا الحياد ولا تتدخلوا. وانتصرت "سبحانك" عندما تقال لله على سبحانك التي تقال لأمريكا و"إسرائيل".
غزة كذلك بكل حصارها وفقرها وضعفها وقفت ووضعت حدًّا لغطرسة عدو الأمة المركزي؟ لماذا؟ لأنها قالت مقولة يونس: سبحانك فلم ترَ عظيمًا في قلبها إلا الله فرأت دولة الاحتلال صغيرة حقيرة، ورأت نفسها قادرة على أن تكون ندًّا وقوية ترى الانتصار ممكنًا. حققت توازن رعب وكشفت أمر هذا الذي يدَّعي الألوهية على العربان ودول التنك وأثبتت أنه أوهن من بيت العنكبوت، لقد فضحت تلك الدول وجيوشها التي كانت تسجد لصورة وهمية لهذه الدولة وتضخم الخوف منها في صدور شعوبها، غزة نزعت الخوف من صدرها، كلمة السرِّ هي "سبحانك" عندما تقال لمن يستحقها وتنزع عمن إذا قلناها له زادنا خبالًا.
إن من لم تتمثل أمتنا هذه العبارة التي تحرر الامم والشعوب من كل أنواع التبعية وتجعلها أمة حرة سيدة على قرارها، فإنها حتما ستزداد غرقا في الظلمات، وهذا هو حال أمتنا العربية منذ أن خرج الاستعمار من الباب وعاد من كل النوافذ، ولم تجد سوى المزيد من ظلمات التبعية واستهلاك أسلحة الخردة لدول الاستكبار والاستحمار لهذه الدول التي فقدت البوصلة.
ونحن الفلسطينيون بأشد الحاجة إلى الوقوف مع الذات لننظر في حصاد سياستنا، في ماذا نجحنا وفي ماذا فشلنا وما هو الأسلوب الأفضل لمقارعة الاحتلال، كيف نبني إستراتيجية على تاريخنا الحافل لنرسم طريقًا نحو التحرر من هذا الاحتلال، كيف نبني الذات الثورية المتحررة من كل خوف وضعف وعجز، الذات الفردية والذات الجمعية؟
لن تخرج قضيتنا من ظلماتها إلا إذا حققنا ذاتنا باستقلالية تامة وأن نعيد النظر بكل أحوالنا باحثين عن الخلل للتصحيح وتقويم الذات.
لن تخرج قضيتنا من الظلمات ولن تبصر طريقها نحو التحرر إلا إذا أتقنا معادلة الذات أمام المعادلات التي تريد أن تطوينا وتذيبنا في جوفها بشكل كامل بعد أن تعصر علينا عصارتها النتنة، معادلة الذات هي الأساس وهي التي ينبغي أن نراهن عليها جيدًا. الذات الحرة المستقلة ذات القرار السيادي كامل الدسم.