بعد أن تحدث عباس عن انتخابات عامة، جاء دور الإفصاح عن شروطها الكثيرة الكفيلة بإحباطها. وسيكون من بين هذه الشروط –حُكمًا- مصادرة حق الناخبين في أن يعبروا عن آرائهم، أو أن يطّلعوا على آراء بعضهم بعضًا. فعباس يشعر بالذعر من الرأي، ويرى التعبير عن الآراء محض "جرائم إلكترونية" أو حرائق تُستدعى لإخمادها سيارات الإطفاء!
الديكتاتور الصغير الطاعن في السن، الزاحف إلى سن التسعين ويطمح إلى التجديد لنفسه في الحكم؛ أطلق لغطًا حول مصادر الشر التي تتهدد أمنه وأمن سلطته. فهُرع إلى اتخاذ التدابير اللازمة للإجهاز على مواضع الخطر المدرسي، بـ"تشليح" التلامذة سكاكين مزعومة، والإعلان مؤخرًا عن المدارس خالية من العنف، لكي يُطمئن أفيخاي أدرعي على أمنه وعلى أن مواقع إعلامه صفحات الليكود العربي والأجنبي آمنة ولا تنافسها أضدادها. فليس أوجب الآن من الإغلاق الفوري للصفحات التي تتحدث عن أملاك الشعب الفلسطيني وعن القرى المهجرة وعن البيوت المنسوفة والأسر المعذبة، أو التي تشرح قضايا هذا الشعب في كل أماكن وجوده. فلم يتبقى شيء يقلق عباس سوى الرأي العام الفلسطيني، لذا لا بد من الحجب السديد، وتغييب مواقع الأخبار والرأي، لكي تجرى العملية الانتخابية المزعومة في ظلام شفاف ونظيف. فقد تاهت الفكرة ثم وجدها عباس وقضاؤه!
لعل هذا هو ما يليق بالممسكين بمقاليد السلطة الذين أفقدوها بوصلتها، عندما أدركوا أن الشعب لم يعد راضيًا على الاستمرار في هذه الحال، لا سيما وأن كُلًا من الشقيق التونسي والشقيق اللبناني اللذين احتجا بضراوة، لصالح حريتهما ولأسباب أقل من أسباب المجتمع الفلسطيني. بل إن الذين نادى التونسي واللبناني بإسقاطهم، كانوا يمتلكون تفويضًا لم تمضِ مدته الزمنية، وأعطيا شعبيهما مساحات معتبرة، من حرية التعبير، ومنظومات أمنية وقضائية، ليست فيها سمة من سمات البطش والرضوخ للحاكم. ولم يفتقر الشقيق التونسي ولا الشقيق اللبناني، لحرية التعبير عن رأيه وحق إبداء النصيحة على الملأ، وممارسة النقد المشروع. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن المتاح كافيًا، لا سيما مع توغل الفساد الذي من شأنه جعل الدساتير حبرًا على ورق. فما بالنا عندما يكون الأمر، بالنسبة للشعب الفلسطيني، بتعلق بحكم مديد بلا تفويض، وبلا وثيقة دستورية وبلا سقف زمني لآجال الأمر الواقع، وفي ظروف تتوالى فيها التحديات المصيرية، ويعم الفساد، ويتداعى البؤس، ويراد للشعب أن يأخذ الحكمة من فم أفيخاي أدرعي ومواقع الليكود وما تبقى من مواقع باهتة غير محجوبة!
كانت مواقع الأخبار والرأي، التي طالها الحجب، وهي من أراضي 67 و48 هي التي تعكس حقيقة الرأي العام الفلسطيني، وهي التي تكفلت، مع قنوات تلفزة معارضة، بإسماع الشعب بعض المسكوت عنه. وبالتالي استشعر عباس خطرها، ووجه قضاءه لحجبها!
نعلم أن نقابة الصحفيين، ومعها نقابة الكُتاب، سوف تتبرم من هذا التعدي على حقوق الناس في حرية التعبير، وحق وسائل الإعلام في الوصول إلى المعلومة. ولا بد أن تشعر النقابتان بالحرج، ومعهما النخب الثقافية والسياسية وناشطو المجتمع الأهلي. ويفترض أن يستنتج هؤلاء جميعًا من هذا السلوك، أن الدعوة لانتخابات عامة ليست إلا محاولة لذر الرماد والعيون، وأن ما يريده الديكتاتور الصغير، الذي صنع البؤس لنفسه ولشعبه، هو التشبه بالديكتاتوريات الكبرى في الدول المستقلة. ربما هو لا يدري أن من يريد التشبه بهم خربوا أوطانهم وفتحوا بطونها لكل غازٍ وطامع، ولم يتح لهم أن يستريحوا على تلال خرابها. فتلك الديكتاتوريات لم تفشل في حجب الرأي والمعلومة وحسب، وإنما ساعدت على تعميمها وترويجها، وكان هنا، مكمن الغباء وبرهان الرعونة والدليل على المأزق!