يبقى لبنان بلد الحرية والأحرار، الوطن الصغير بمساحته، ولكنه الكبير بتجربته.. أكبر مما نتصور، لبنان خاض غمار حرب أهلية قاربت العشر سنوات وخرج منها معتبرا من ويلاتها ، لبنان خاض حروبا طاحنة مع الاحتلال وتمكن الاحتلال من جنوبه فترة طويلة ووصل إلى بيروت أكثر من مرة، وكان لبنان محطة لصبّ الاحتلال الصهيوني نيرانه وصواريخ طيرانه المتفوّق وقت ما شاء وكيفما شاء، ثم تمكن لبنان بفضل مقاومته من ردع هذا الاحتلال وهزيمته وإلزامه حدود الأدب والاحترام للجار الشمالي الذي كان يبدو الخاصرة الأضعف وإذا به المربّي الفاضل لهذا الاحتلال الغاشم .
والآن لبنان على محك جديد، محك الجبهة الداخلية التي نخرها الفساد الإداري والمالي فانعكس ذلك على اقتصاد البلد وأحوال الناس المعيشية والاجتماعية، فما الدرس الجديد الذي عساه أن يقدمه اليوم في هذا الميدان؟
فاللبنانيون الآن يتحركون بين محظورين ويعون ذلك تماما : الأول أن العدو الصهيوني متربص وعابث في أمن المنطقة، وزعزعة الاستقرار اللبناني من أهدافه الذهبية بكل تأكيد، أما المحظور الثاني فهو ما كان درسا لبنانيا للآخرين منذ ثمانينيات القرن الماضي وعرف باللبننة ، فسلمية التغيير والاصلاح وعدم الانجرار الى اي شكل من الاشكال التي تضرب السلم الاهلي هما ديدن الشعب اللبناني، ولن يكرّر مآسي الماضي بأي حال من الاحوال إلا اذا سمح لأعداء لبنان والمتربصين بها بأن يدسّوا أنوفهم ويمارسوا العبث الذي يمارسونه الان في دول محيطة وشاهدة على جرائمهم فيها. أعتقد أن لبنان قد تجاوز هذا منذ زمن فثقافة شعبه لا تسمح بمثل هذا العبث .
ولكن كما نجح لبنان في ترسيخ قواعد هذه الثقافة المحصنة المانعة لأي خروج عن المحظورات، وكما حقق نجاحات جوهرية في صراعه مع المحتل عسكريا وسياسيا واعلاميا وأمنيا ، وكما نجح في تشكيل أفضل الممكن في عملية المحافظة على السلم الاهلي ومساحة جيدة (نسبيا ) من الحريات والتعبير عن الرأي وحركة الشارع والفضاء الاعلامي الحرّ المتعدد والمتنوع ... الخ، فالمطلوب منه اليوم بعد كل هذا الذي حققه سابقا أن يضرب مثلا في اثبات قدرة الشارع على الضغط الكافي الذي يحدث الاصلاح الاقتصادي الحقيقي من صانع القرار في لبنان، أما عن كيف يكون هذا، فهو متروك للعقل اللبناني الحر والمبدع ليخرج للناس أفضل السبل الممكنة مستفيدا من كل قدراته وخبراته ونجاحاته التي ذكرنا طرفا منها .
شعب حرّ كريم لا يخاف زعماءه ولا يحسب لهم حسابا اذا غضب .. أعتقد انه سينجح في احداث اصلاحات جوهرية لان قادته يخافون العواقب ولأنهم يعرفون جيدا ان سقف هذا الشعب عالٍ وكذلك الشعب يدرك ذلك ويدرك ان بإمكانه التغيير بعيدا عن التهور في متاهات الحرب الاهلية التي ذاقوا ويلاتها وشبعوا من عبراتها حتى النخاع. أتصور أنه سيحافظ على وتيرة صاخبة قوية حتى يصل إلى أهدافه .