هناك ضرورات دفعت العالم للأخذ بالديمقراطية والاحتكام إلى صندوق الانتخاب ، أهم هذه الضرورات أن بديل التداول السلمي للسلطة هو الاقتتال ووقوع الناس في حمام دم لا نهاية له الا العودة الى هذا الصندوق والقبول بنتائجه مهما كانت هذه النتائج ، كذلك فإن البديل أيضا هو الحكم الشمولي الذي يضع البلد في حكم ديكتاتوري لفرد او حزب ووصول الحاكم بانقلاب عسكري أو حكم وراثي أو دعم خارجي أو استقواء فئة من الناس على أساس مذهبي او طائفي أو حزبي، كل هذا معروف ومركون في عمق العقل البشري في هذا العصر ، لقد وصل العالم الى فكر وثقافة لا تسمح بانقلاب او وصول الى كرسي الحكم الا من بوابة الانتخابات إلا عندنا نحن العرب، وقد اتقنا العملية شكلا فأقمنا شعائرها الظاهرة بعيدا عن مضامينها الصحيحة فانتجت لنا شكلا جديدا من أشكال الحكم الشمولي الذي طغى فيه الزعيم وقبض بيده على كل مفاصل الحكم وعند اجراء الانتخابات يضمن الفوز بالاربع تسعات(99.99) بلا منازع .
تونس سبقت بالربيع العربي وثبت أنه كان ربيعا بالفعل، تخلصت بداية من الحكم الشمولي ثم راحت تخطو خطوات جوهرية نحو ديمقراطية حقيقية ، وقد بدّد حزب النهضة ذو المرجعية الفكرية الاسلامية مخاوف الاخرين من أن من أفرزه الصندوق لحكم البلاد ممكن أن يتخلى ببساطة اذا طلب منه الصندوق ذلك ، ترسخ في التجربة النونسية ديمقراطية فعلية حقيقية وجاءت وجوه جديدة لحكم البلاد ذات كفاءة عالية رضي عنها الناس واختاروها عن رضى وطيب خاطر ، ووضعوا أمامها فرصة لاثبات نجاحه والا فالصندوق جاهز لاستبدالها .
كذلك فان الاصلاح الاقتصادي للبلد لا بد من أن يسبقه اصلاح سياسي لان فساد الحكم لا يمكن ان ينتج عنه حالة اقتصادية ناجحة، فساد الحكم ينتج عنه أن تكون ثروات البلد وقدراتها بأيدي فئة قليلة هي التي تتغذى على الفساد السياسي ويتغذى هذا الفساد منها .
تونس الان سبقت العرب جميعا وسبقتنا نحن الفلسطينيين رغم أننا أشد حاجة لمثل هذا النجاح السياسي ، لماذا ؟ لان هذه الضرورات التي أسلفنا ذكرها نحن غارقون فيها حتى النخاع .. فوجود الاحتلال على أرضنا يؤكد أن وحدة الصف والابتعاد عن شبح الصراع الداخلي هو أشد ضرورة في الحالة الفلسطينية من أي بلد آخر .
وكذلك فإن الحكم الشمولي ووضع مقاليد الحكم بيد فرد مهما كانت عبقريته أو فئة او حزب مهما كانت نزاهته سيؤدي الى الدمار والتلاشي ، ففي ذلك فقدان لمصداقيتنا امام العالم خاصة وان عدونا يطرح نفسه واحة للديمقراطية في هذا العالم الشرق اوسطي المتوحش والغارق في الانظمة الشمولية، وكذلك فان قابلية الضغط على مثل هذا النظام التي تتمترس كل الصلاحيات بيد فرد او جهة متنفذة ممكنة ولا مفرّ الا بالخضوع للضغوطات السياسية من أجل المحافظة على السلطة . لو كان الحكم بالفعل ديمقراطيا لاستطاع الفلات من هذه الضغوطات بحجة ان شعبي يسقطني ان رضخت لمطالبكم، الامر ليس بيدي ، هذا لا يقبله شعبي . وكذلك فاننا باشد الحاجة لاقتصاد ناجح وهذا لا يمكن ان يتم دون اصلاح النظام السياسي .
ويبقى السؤال المفتوح أمام كل الدول العربية ونحن الفلسطينيين الاشد حاجة وضرورة لماذا سبقتنا جميعا تونس ؟
أجتهد في الاجابة بأن هناك اسبابا مشتركة تدعو الجميع لمثل هذا النجاح السياسي الا وهو المعاناة الطويلة جدا من الانظمة الشمولية وظهور مآسيها وانكشاف عوراتها ، اما ما يخص تونس فانه غلبة المنهج العقلي في التفكير على المنهج التقليدي وهذه سمة المغرب العربي ، وتظهر جليا اذا عقدنا مقارنة مع غيرها في العالم العربي، وهذا أدى الى وجود احزاب وحركات يقودها من لهم باع طويل في الفكر والمعرفة وهؤلاء لا يرضون لانفسهم التقليد وإنما إعمال العقل والتجديد وفق متطلبات العصر وتعقيدات الواقع وضروراته .