فلسطين أون لاين

​تؤوي 21 فردًا منهم اثنان من ذوي الإعاقة المركبة

في غزة .. قسوة الحياة بـ"ثلاثة قبور" لا تصلح للعيش

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

بيت قديم متهالك البنيان، تشرق عليه الشمس فتتسلل أشعتها عبر كل ثقب وفتحة في سقفه، مع انسحاب القرص المتوهج متخفيًا وراء الأفق تغيب أحلام أفراد عائلة "أبو غليون"، لتتجدد مع إشراقة يوم جديد يقفون على أطلال الأمل منتظرين حلمًا تأخر كثيرًا حتى باتوا في عداد "المنسيين"، أعمدة أكلها الزمن، وأرضيات متشققة، وجدران متصدعة، حجارة عمرها 60 عامًا ترسم خريطة وحكاية ألم تعيشه العائلة.

قد تعجز الكثير من الكلمات أن تنطق بحروفها حكاية الألم التي كانت شاهدة على معاناة الحاجة فاطمة أبو غليون (78 عامًا)، و21 فردًا يعيشون في منزل يشهد كل ركن فيه على فقر من عمر حجارته القديمة، وألواح "الزينجو" و"الأسبست" التي تآكلت مع مرور الزمن، حتى عجزت هشاشته عن مقاومة غزارة الأمطار التي أغرقتها مرارًا، ومنع حرارة الصيف الحارقة.

اقتربت الجدة على طرق أبواب الثمانين من عمرها، وهي تعيش تحت سقف بيت لا يستطيع توفير أدنى مقومات الحماية لها من البرد، لكن كل ما ذكرناه يسير مقارنة بما سنرويه لكم الآن.

منذ 60 عامًا

الساعة الواحدة ظهرًا، في أحد أزقة مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، حطت أقدامنا أمام باب المنزل "البني"، لكن هذا ليس لون طلاء بل بفعل صدأ نهشه على مدار سنين طويلة وفتح ثقوبًا كثيرة فيه، يسمح بمرور أي قوارض وحشرات من تحته متى شاءت، وأن تتسلل خلسة تحت جنح الظلام.

لا يمكن لمن يلج البيت تحمّل الرطوبة والضيق اللذين أحالاه إلى خرابة، تعرجات كثيرة مرسومة على جدرانه، هي في الحقيقة ليست رسومًا أو أشكالًا هندسيةأو فنية، بل تشققات بفعل التصدع، وكأن زلزالًا ضرب المنزل الذي يرفع على هامته سقفًا تزينه خيوط عنكبوتية، وأخرى تعشش حديثًا لم ترتبط أوصالها بعد.

وكما تتسلل أشعة الشمس من فتحات السقف، لا تجد أمطار الشتاء هنا ما يمنعها فتحيله إلى مستنقع مائي يتسرب من سطح (الزينجو) إلى المطبخ والحمام، ومكان آخر تسميه العائلة تجاوزًا "صالة"، تجدها أمامك مباشرة ما إن يأذن لك بدخول المنزل، هي مكان مفتوح أمامك، هو المنفس الوحيد لأربع عائلات تتكون من 21 فردًا.

على يمينك يتمدد نبيل (46 عامًا) على الأرض،يعاني إعاقات مركبة؛ فهو أصم لا يستطيع النطق، ولا المشي، وكذلك الإدراك، بجانب الجدة يجلس ياسر (48 عامًا) وهو أصم ويعاني إعاقات وأمراض أخرى مثل شقيقه، ظلت والدتهما طوال عمرهما ترعاهما حتى اليوم كما ترعى طفلين صغيرين.

يشع في عينيها بريق وصوت خافت مسكون بمعاناة الماضي؛ تتجه بنظرها نحو ياسر الذي يجلس بقربها: "لدي ولدان لديهما إعاقة مركبة، ربيتهما بصعوبة، حتى الآن أرعاهما كما كنت أرعاهما وهم طفلان، في كل شيء: المساعدة على المشي، ولبس الثياب".

بعد مترين من مكان جلوس الحاجة "أبو غليون" على كرسي بلاستيكي بالصالة يوجد مكان صغير، وكأنك تدخل إلى كهف، هذا ما تسميه العائلة "مطبخًا"، فيه تعد الوجبة اليومية لثلاث عائلات، إن توافرت، تنهدت الجدة على باب المطبخ المكسور: "هذا المطبخ للجميع، نطبخ مرة أو نعد مقالي: (بطاطا ... إلخ) أو أي شيء".

تروي تعرجات وجه هذه الثمانينية التي أحنى العمر ظهرها قليلًا، وربما كذلك مشقة العيش هنا، حكاية مغلفة بالمعاناة والألم، واصفة الحياة هنا: "كما تراه؛ بيت مدمر لا يصلح حتى لعيش الكلاب".

يجبرها الموقف على إخراج تنهيدة أخرى بالعامية: "البني آدمين بعرفوش يقعدوا فيه".

حضرت حديثنا "أم أحمد"، وهي "كنة" لهذا البيت منذ 31 عامًا، شهدت على معاناة ومآسٍ كثيرة، تختصرها بالقول: "ماذا نفعل؟!، مضطرين للعيش".

"الواحد محشور بين سلاف وأولاد، ونتمنى بيت مستقل" تختصر حديثها وعادت لتكمل إعداد طبختها لهذا اليوم.

ضيق وأمنية

في صدر البيت بابان مغلقان أمامهما أكوام من الملابس والأغراض، خلف كل باب غرفة، يعيش ثمانية أفراد لأحد أبناء الجدة غير المعاقين في الغرفة على الجهة اليمنى، منهم بنتان في الجامعة وولد في الثانوية العامة، كل هذا العدد في غرفة واحدة.

في المساء يخرج الأبناء الكبار للنوم في "الصالة"، وفي الغرفة اليسرى يعيش تسعة أفراد بالمعاناة نفسها: "حياة في ضنك، يأتي أفراد المؤسسات الإغاثية لتسجيل حالتنا، لكنهم لا يعودون" تقولها أبو غليون من أمام البابين، وتضيف: "هذا البيت لم يعمر منذ ستين سنة، فقط نضيف غرفة، إذا ضاقت بنا الحياة وزاد عدد أفرادنا".

"لا يوجد تلفاز، ولا أي جهاز لوحي، هذا المكان غير صالح للعيش"، ورغم كل ما ترويه الجدة ما زالت هناك أمنية لدى جميع أفراد العائلة ببناء البيت، اهتزت أصابعها وهي تحاول الإمساك بيد الكرسي البلاستيكي قبل أن تجلس عليه، بعد تلك الجولة داخل البيت، أو إن شئت سمه "ثلاثة قبور"، امتزج صوتها بتلك الأيام المحملة بالألم: "أمنيتنا نشوف دار زي الخلق نقعد فيها، بدل المطر اللي بغرقنا كل سنة".

صالة خالية من أي حصير، أرضيتها مرقعة ببلاط، مطبخ مثل الكهف وكأن أشعة الضوء لا تدخل إليه، سقف به فتحات، ثلاث غرف تعيش في كل غرفة عائلة مكونة من عدة أفراد، ابنان معاقان، هذا وصف مختصر للمشهد، لكن لا حلول هنا "ترى بعينك كيف هذه العائلات تعيش هنا (...) أبنائي متعطلون عن العمل".

ولا تقدم السلطة في رام الله لهذه العائلة سوى "فتات" غير منتظم مساعدة اجتماعية لا تسد رمق الحياة ولا تنهي معاناتها المزمنة، وتحصل على طرد غذائي من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، دون تدخل حقيقي من هاتين الجهتين لاحتواء العائلة وترميم بيتها، لاسيما مع وجود مرضى وذوي إعاقة يحتاجون إلى رعاية خاصة؛ وفق حديث المسنة.

لكن لعل هذه القصة تحدث ما تتمناه الجدة وتصل رسالتهم، لانتشال هذه الأسرة من براثن الفقر، ومستنقع المعاناة، فهل سيلبى النداء؟!، سؤال يراود عيون كل طفل منهم، تخفيه كل ابتسامة ممزوجة بالحزن حاولوا إظهارها، أتخيله في صوت الجوع الذي تعكسه ملامح وبنية أجسادهم.