تستفيد أجهزة المخابرات من هذا الأسلوب في الحصول على المعلومات، وبذلك شكلت وحدات إلكترونية خاصة لمتابعة ومراقبة ورصد مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات الملتقيات والمنتديات وشبكات الحوار، وربما سنبحث هذا الموضوع بالتفصيل في محور التكنولوجيا، ونبقى هنا مع قصة الجاسوس المحترم، الباحث المميز، والرجل الخلوق، تخرج في إحدى الجامعات العريقة، وعمل أستاذًا للعلوم السياسية، ووقف بجانب قضيته العادلة مدافعًا عنها بالقلم والصوت والصورة، كي يكشف زيف الادعاءات والأطماع الصهيوأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
لم يكترث لإهمال حكومته دور العلماء والباحثين ولأعمالهم، واستمر في عطائه البحثي حتى حصل على أعلى المراتب العلمية بجهد وتمويل ذاتيين.
في أحد الأيام استقبل أستاذنا على هاتفه المحمول مكالمة هاتفية عرّف صاحبها عن نفسه بأنه من أحد مراكز البحث العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنهم يدعونه لتقديم ورقة عمل عن طبيعة المتغيرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط في ضوء الربيع العربي، على أن يغطي المركز نفقات السفر والإقامة، وطلبوا منه إرسال سيرته الذاتية وبعض من وثائقه الشخصية إلى البريد الإلكتروني الخاص بهم.
قد يكون العرض مغريًا لأي باحث وطني غيور على قضاياه العربية والإسلامية، فهي فرصة كي ينقل رسائل المعاناة إلى الرأي العام الأمريكي، وفي الوقت نفسه يحقق عائدًا ماليًّا قد يكون الباحث بأمس الحاجة إليه كي يعيش في حالة من الاستقرار والتوازن.
سافر أستاذنا وألقى ورقة بحثه أمام نخب أمريكية وغربية، وربما يهودية إسرائيلية، وهو لا يدري، وبعد أن انتهت أعمال الورشة أثنى رئيس المركز على أستاذنا ودعاه لارتشاف فنجان قهوة في مكتبه، وفي أثناء اللقاء عرض رئيس المركز على أستاذنا العمل ضمن فريق الباحثين داخل المركز مقابل (10,000) دولار أمريكي لكل دراسة يحكِّمها المركز، وأعتقد أن هذا العرض في عالمنا الثالث لا أحد يستطيع رفضه، فوافق أستاذنا على الفور ووقعوا العقود، وكانت أول دراسة يكلف بها هي الدين والدولة في إحدى الدول العربية، ثم عن مستقبل الحركات الإسلامية بعد الربيع العربي، وعن مشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين، وطلب المركز من أستاذنا فتح مركز لقياس الرأي العام، وهكذا بدأت حلقات المسلسل لتصل في النهاية إلى أن الغرب باتوا يطلعون على فسيفساء المشهد السياسي العربي دون جهد استخباراتي عملياتي، وبدأ يأخذ هذا السلوك الغربي في التعاطي مع المنطقة العربية مسارًا آخر نستطيع أن نطلق عليه مصطلح (الاستعمار الجديد)، وباتوا يتعاملون فرديًّا مع باحثين أو مؤسسيًّا مع بعض المنظمات الأهلية من طريق مشاريع بحثية ومسحية تقوم بها تلك المنظمات مقابل دعم وتمويل سخي.
قد يكون مقبولًا أن تبحث في كل المجالات، وتتلقى مقابل ذلك أموالاً، فهذا ليس عيباً ولا مدعاة للريبة والشك، ولكن الغريب أن يطلب منك عمل دراسات وأبحاث عن تفاصيل الحياة اليومية بمقابل مادي سخي، ولكن مشروط هذا العمل بأنه ليس للنشر، وأنه فقط للاستشارات ودعم صناعة القرار في الدول الغربية، وهنا تبدأ الرحلة مع أجهزة الاستخبارات، إذ تبدأ المطالب البحثية تأخذ مسارات تضر بالأمن القومي العربي.
ومنذ عدة سنوات كشف الدكتور محمد عنتر رئيس الحملة الرسمية لترشح اللواء عمر سليمان للانتخابات الرئاسية المصرية، منسجمًا مع ما سبق ذكره؛ امتلاكه مستندات خطيرة جدًّا عن (36) مركز تجسس على الأراضي المصرية تهدف إلى محو الهوية العربية، وتفريغ الإسلام من محتواه الإنساني والحضاري، وهو الهدف الصهيوني الأمريكي.
وذكر عنتر أمثلة من تلك المراكز البحثية، وهي: مؤسسة راند الأمريكية، والمركز الثقافي الأمريكي، ومؤسسة روكفلر للأبحاث، ومؤسسة كارنيجي للأبحاث، ومعهد بروكنجر، ومؤسسة فريد رش نومان، ومؤسسة هانز زايدل، ومعهد السلام، ومعهد ماسو شوستس وفروعه بالقاهرة، ومعهد إم إي تي الأكاديمية الدولية لبحوث السلام بالجامعة الأمريكية، وهيئة المعونة الأمريكية".
الهوس مرفوض، ولكن الحذر مطلوب.