من يقرأ القرآن الكريم قراءة عميقة ودقيقة يلحظ أنه يشتمل على ثنائيات متلازمة قد تكون متناسقة من حيث الجوهر وقد لا تكون، حيث يذكر أمرين بتتابع في أكثر من موضع، فقلما تجد "إقام الصلاة" لا تتبعها "وإيتاء الزكاة"، وقلما تجد "الإيمان" أيًّا من مشتقاته غير متبوع بـ"العمل الصالح"، وهذا الاقتران من حيث الجوهر هو اقترانٌ طبيعيٌّ لكون الأمرين المقترنين هما وسائل من عند الله نتقرب بها له زلفى.
لكن أن نجد أن الله (سبحانه وتعالى) قد قرن عبادته بالإحسان إلى أحد من البشر هذا أمر من الأهمية بمكان عظيم جدّاً، فكلنا يقرأ ويحفظ: "وقضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (الآيتان: 23 و24 من سورة الإسراء)، وهذا التعظيم يدفعنا لأن نقول: "سمعنا وأطعنا".
لكن "سمعنا وأطعنا" تدفعنا إلى البحث عن لماذا قال الله (عز وجل): "وبالوالدين إحسانًا"، ولماذا أكد على (أحدهما أو كلاهما)، لماذا ذكرهما ووضح المطلوب بحقهما؟، ولماذا قرن الإحسان لهما بعبادته؟
لا يخفى على أحد ما للإنسان من كرامة في الإسلام رجلًا أو امرأة أو شيخًا أو طفلًا، لأن الله قال في كتابه العزيز: "ولقد كرمنا بني آدم" دون تحديد لطبيعة بني آدم، والتكريم شمل كل الخلق، من حيث منحهم آلاء "لا تعد ولا تحصى".
وقد خص الله الوالدين بالتكريم بأن قرن رضاه عن الإنسان برضا والديه عنه، ومنحهما من الكرامة والتقدير ما لم يمنحه لأحد غيرهما، وهذا تأكيد أن الله يعلم ما يقدمه الوالدان لأبنائهما من اهتمام ورعاية وما يعانيانه من تعب ومشقة، فالأم تدخل رحلة العناء والإرهاق منذ أن يعلم بوجود جنين في بطنها، حيث يحتاج لرعاية وغذاء خاص فيتغذى منه، ومع الوقت يستهلك طاقتها وحركتها، والأب يعمل ويكد حتى يوفر لأولادهالطعام والشراب وما يحتاج له الأولاد.
لما سبق وغيره الكثير قد أوصانا الله بالبر بهما، وألا نقول لهما: "أف"، وجعل رضاهما بوابة الإنسان لدخول الجنة، ولنا في قول رسولنا الكريم (عليه الصلاة والسلام) قدوة حسنة حين قال:" رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة".
فيا من تعق والديك ولا تقدر قيمتهما وترفع صوتك عليهما ولا تكرمهما بما يليق بهما، اسأل الذين فقدوا والديهم: كيف شعورهم بالفقد؟؛ فلا تغتر بشبابك، واعلم أنه كما تدين تدان، فما تفلعه لوالديك فسيفعله أولادك لك.